التفاسير

< >
عرض

وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً
٧٣
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً
٧٤
إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً
٧٥
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً
٧٦
سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
٧٧
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }.
دل هذا على أنه قد كان من الكفرة شيء من الدعاء إلى شيء: يصير به مفتوناً لو أجابهم إلى ذلك، وكذلك كانت عادة الكفرة: كادوا أن يضلّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفتنوه عن الذي أوحي إليه، ويصرفوه عنه، كقولهم:
{ ٱئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ } [يونس: 15]، هكذا كانت عادتهم: كانوا يطلبون منه الافتراء على الله والضلال على وجه المكر به، لا ضلال تصريح وكفر تصريح؛ ولكن معنى؛ يؤدي ذلك إلى الضلال والكفر، يريدون منه المساعدة لهم في بعض ما هم فيه بما كانوا يرونه من الموافقة له والمساعدة، لكن الله عصم رسوله عن جميع ما كانوا يطلبون منه؛ بالآيات والحجج التي ذكر في كتابه، وبالعقول؛ كقوله: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... } الآية [النساء: 65]: أخبر أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضى. ومن لم يكن معصوماً يجوز أن يوجد منه حرج مما قضى به، وكقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [الأحزاب: 57]، ومن لم يكن معصوماً يجوز أن يؤذي ولا يلحقه اللعنة، وقوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ... } الآية [الأحزاب: 36]، فمن لم يكن معصوماً يجوز أن يكون الخيرة من أمره، وقوله: { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأنفال: 1]، وأمثاله [من الآيات] مما يكثر عدّها.
وكذلك العقول تشهد أنه كان معصوماً؛ فمن أراد أن يصرف ويزيل عنه العصمة بتأويل يتأوّله في بعض الآيات، أو بحديث يرويه - فإنا لا نقبل تأويله، ولا خبره الذي روي، ونشهد أنه كذب.
ويجوز أن يكون في خبره الذي روي معنى آخر سواه؛ فليس له أن يروي إلا بالمعنى الذي كان فيه؛ فتأويل أهل التأويل أنه ألقى الشيطان ولقنه عند تلاوته:
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 19-20] - تلك الغرانيق العلا، وشفاعتهن ترتجى.
وقال بعضهم: لا ندعك تستلم الحجر إلا أن تستلم آلهتنا، ونحوه.
إن ذلك كله فاسد خيال؛ أنه كان لا يحوم حول أصنامهم في حال صغره، ولا رأوه دنا منها؛ حتى لم يطمعوا ذلك منه ما دام صغيراً؛ فكيف طمعوا ذلك الاستسلام لها بعد ما أوحي إليه وصار رسولاً؟!
وكذلك ما ذكروا أنهم طلبوا منه أن يطرد بعض الذين اتبعوه - عنه؛ ليكونوا هم أتباعه؛ فهم أن يفعل ذلك فنزل: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }، لكن ذلك كله فاسد خيال، لا يحتمل ما توهموا فيه؛ لأنهم لم يعرفوه حق معرفته، وإلا لو عرفوه حقيقة المعرفة ما توهموا فيه شيئاً من ذلك، وبالله التوفيق والمعونة.
ثم قوله: { لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ }.
قد ذكرنا أن عادتهم ذلك إلا أن الله عصمه عن ذلك.
ثم قوله: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }:
فظاهر الآية يرد جميع ما قال أهل التأويل في هذه الآية؛ لأنه يقول: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ }: أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يركن؛ لأنه أخبر أنه قد ثبته؛ فلم يكد أن يركن إليهم. وقال: { شَيْئاً قَلِيلاً }: سمي ذلك: شيئاً يسيراً، ولو كان ما قال أولئك لكان شيئاً كبيراً عظيماً، بل يبلغ الكفر؛ دلّ أنه لم يكن ما ذكروا، وقال: { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ }، و (كاد): هو حرف بمعنى: قارب، أي: قارب أن يركن؛ كقوله:
{ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ } [مريم: 90]، أي: قارب أن يتفطرن، وليس فيه أنه ركن إليهم؛ فقولهم فاسد للوجوه التي ذكرنا [أحدها: أنه ذكر]، { شَيْئاً قَلِيلاً }: وما قالوا: كبير عظيم يخاف أن يبلغ الكفر.
والثاني: قال { كِدتَّ }، وهو حرف تقارب.
والثالث: ذكر على الشرط: { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }؛ فلم يركن لما ثبته، وهو ما قال إبراهيم:
{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } [الانبياء: 63]، وما ذكرنا في قصّة يوسف: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف: 24]: ليس فيه أنه هم، ولا فيه أنه ركن؛ لأنه خرج على الشرط.
وقال الحسن في قوله: { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ }، أي: هممت، لكنه هم به هم خطر خطره إبليس. وكذلك قال في قصّة يوسف: همت به همّ عزم، وهم بها هم خطر.
وقال غيره: أرادوا منه أن يجعل لهم مجلساً على حدة؛ ليسلموا، فهمّ به أن يفعل ذلك؛ لحرصه على إسلامهم، وإشفاقاً عليهم، فمثل هذا يجوز الفعل إلا أن الرسل لا يجوز لهم أن يفعلوا شيئاً، وإن صغر، إلا بإذن من الله - تعالى - ألا ترى أن يونس - عليه السلام - لما خرج من عند قومه مغاضباً عليهم بغير إذن منه - عاتبه ربه بذلك معاتبة عظيمة؛ حيث قال:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143-144]، ومثل هذا لو فعله غيره من دونهم كان ممدوحاً محموداً في ذلك؛ فهذا يدل أن الأنبياء لم يكن لهم صنع شيء وإن قل إلا بإذن من الله، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجلّ -: { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ }:
أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
وقال أبو عوسجة: { ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ }، أي: مثل الحياة.
وغيره قال: { ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ }: عذاب الدنيا، { وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ }: عذاب الآخرة.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً }، قيل: مانعاً.
وقيل: ناصراً ينصرك، وشافعاً يشفعك [إلينا]، والله أعلم.
وقوله: { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا }:
قال الحسن: قوله: { لَيَسْتَفِزُّونَكَ }، أي: كادوا ليقتلونك، وليخرجوك منها بالقتل، وقد كانوا هموا قتله، لكن الله عصمه عن ذلك؛ بقوله:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67].
وقوله - عز وجل -: { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً }:
هكذا كان سنة الله في الأمم الخالية أنهم إذا قتلوا نبيهم: لم يلبثوا بعده إلا قليلاً حتى أهلكوا. وقال بعضهم: هو على الإخراج نفسه، إلا أن الله أخرجه إخراج هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله ألا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال؛ فلو كانوا هم أخرجوه - لاستوجبوا به الإهلاك؛ لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم.
وقال بعضهم: على حقيقة الإخراج منهم: أخرجوا رسول الله من بينهم، وفعلوا ذلك؛ فلم يلبثوا بعده إلا قليلاً، حتى أهلكهم الله بالقتل يوم بدر وغيره، وهو ما قال:
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد: 13]: ففيه دلالة أنهم أخرجوه، وأنهم أهلكوا بذلك، وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.
وقال أهل التأويل في قوله: { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ }، أي: ليستنزلونك من أرض المدينة؛ حيث نزل بالمدينة؛ قالت له اليهود: إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام؛ فإن كنت نبيّاً رسولاً فاخرج إليها فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الشام، فعسكر على رأس أميال؛ لينتاب إليه أصحابه؛ فنزل به جبريل بهذه الآية، لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن يخرج رسول الله من أرض المدينة إلى أرض الشام بقول أولئك اليهود، من غير أن كان من الله إذن له في ذلك، هذا لا يحتمل ولا يتوهم منه ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا، والله أعلم.
ويشبه أن يكون قوله: { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }، أي: كادوا أن يفتنونك بالمكر والكيد والخديعة لك؛ ليستفزونك من الأرض، لا أنهم كانوا يطمعون أن يفتنوه ويضلوه عن الذي أوحي إليه على التصريح والإفصاح؛ ولكن على جهة المكر به والخديعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا }:
على قول الحسن: السنة في الأمم الذين قبله: أنهم إذا قتلوا الرسول أهلكوا أو عذبوا.
وعلى قول بعضهم: السنة فيهم: أنهم إذا أخرجوا الرسول من بينهم؛ على علم منه: أنهم لا يؤمنون، بعده الإهلاك. وعلى قول بعضهم: على الإخراج نفسه، وهؤلاء قد أخرجوا رسولهم من بينهم بقوله:
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ... } الآية [التوبة: 40].
وقوله:
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } [محمد: 13]، لكنهم عذبوا تعذيب رحمة وإهلاك رحمة، لا إهلاك استئصال.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً }. أي: لعذابنا تحويلاً.