التفاسير

< >
عرض

وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً
٨٣
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً
٨٤
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً
٨٦
إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً
٨٧
قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً
٨٨
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٨٩
-الإسراء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ }:
فيشبه أن يكون النعمة التي ذكر هو محمد؛ لما ذكرنا أنهم كانوا في حيرة وعمى لا يجدون السبيل إلى دين الله،
{ وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42] فذلك الإعراض الذي ذكروا، والله أعلم، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى دين الله ويبين سبيله، فذلك منه نعمة عظيمة أعرضوا عنها وتباعدوا عنها.
ويشبه أن يكون ما قاله أهل التأويل إنه إذا وسع عليه الرزق والعيش أعرض عن الدعاء له وتباعد بجانبه.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً }، أي: يائساً من الخير ألا يعود إليه أصلاً، وهكذا كانت عادتهم أنهم [كانوا] يخلصون الدعاء له إذا مسّهم سوء وأصابتهم شدة، ويكفرون به إذا تجلى ذلك عنهم وانكشف، كقوله:
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ... } الآية [العنكبوت: 65]. { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ... } الآية. وأمثاله، وكان الناس كلهم فرقاً أربعة:
منهم من كان مذهبهم ما ذكرنا: أنهم كانوا يخلصون له الدعاء في حال الشدة ويكفرون في حال الرخاء.
ومنهم من كان يؤمن به في حال الرخاء والنعمة ويكفر به في حال الشدة، كقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } الآية [الحج: 11]. وهم أهل النفاق.
ومنهم من يكفر به في الأحوال كلها كقوله: [...].
والفرقة الرابعة هم أهل الإسلام يؤمنون به في حال الرخاء وحال الشدّة في الأحوال كلها، على هذا كانوا في الأصل، وعلى هذا يجيء أن يكون قوله: { وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } من الأصنام، كقوله:
{ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67] فيكون إياسهم من الأصنام التي عبدوها.
لكن أهل التأويل صرفوا إلى ما ذكرنا من الإياس عن الخير من [أن يعود إليهم.
وقوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }: لسنا نعلم إزاء أي سبب كان هنالك حتى قال: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }؛ إذ إنه يجوز أن يقال هذا بلا سبب كان منهم، لكن يشبه أن يكون] قال هذا على الإياس من إيمانهم لما لم يزدهم دعاؤه إياهم وكثرة تلاوة آياته عليهم وإقامة حججه عليهم - إلا عناداً وإنكاراً، فقال عند ذلك: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ }، أي: على دينه وطريقته، كقوله:
{ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6]، وكقوله: { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيۤئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيۤءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس: 41]، فهو كله على الإياس عن أن يؤمنوا به ويقبلوا دينه، ثم قال: { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً }، أي: ربكم أعلم بمن منا على الهدى، ومن ليس.
أو [من] منا أهدى سبيلاً نحن أو أنتم؟
وقال أبو عوسجة: الشاكلة: الحاضرة أي: على ناحيته.
وقال القتبي: شاكلته، أي: على خليقته [وطبيعته].
وقال قطرب: على طريقته، وكأن هذا أشبه.
وقال بعضهم: على نيته.
وقيل: على دينه ومذهبه.
وقيل: على جديلته ومنهاجه، وكله يرجع إلى واحد.
ويشبه أن يكون: أي: كل يعمل بما هو الشبيه به وما هو يشبهه؛ لأن الشكل هو ما يشبه الشيء، يقال: هذا شكل هذا، وقوله: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } على قول من يقول على خليقة خلق عليها؛ لأنه خلق على علم منه أنه يختارها ويؤثرها، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } قيل: ذاهباً باطلاً، لا يجدي لأهله نفعاً؛ لأنه يتلاشى ولا يبقى، والحق يجدي لأهله نفعاً ويبقى، وعلى ذلك ضرب الله مثل الحق بالشيء الذي يبقى، وضرب مثل الباطل بالشيء الذي لا يبقى ولا يثبت؛ فقال:
{ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ } [الرعد: 17]، وقد ذكرناه في موضعه: ضرب مثل الباطل بالزبد وهو يتلاشى، لا ينتفع به؛ فعلى ذلك الباطل، وضرب مثل الحق بالماء، وهو يبقى في الأرض، وينفع الناس، وضرب مثل الباطل - أيضاً - بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار بقوله: { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ... } الآية [إبراهيم: 26]، وضرب مثل الحق بالشجرة الطيبة الثابتة في الأرض ذات قرار وثبات بقوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [إبراهيم: 24].
فهو على ما وصفها: الحق ثابت باق وله قرار ينفع أهله، والباطل يرى ثم يتلاشى ولا بقاء.
وقوله - عز وجل -: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }: اختلف فيه:
قال أبو بكر الأصم: الروح: القرآن هاهنا، كقوله:
{ يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [النحل: 2]، وكذلك قوله: { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ... } الآية [الشورى: 52]. { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }، أي: من تدبير ربي، ما لو اجتمع الخلائق ما قدروا على مثله.
فإن قيل: كيف سألوا عن القرآن، وهم لم يقروا بالقرآن؟ فقال: سمّوه: قرآناً وروحاً على ما عنده - أعني: عند رسول الله - كقوله:
{ وَقَالُواْ مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ } [الفرقان: 7] وهم لم يكونوا أقروا أنّه رسول، ولكن سمّوه: رسولاً؛ لما [أنه] عند نفسه وزعمه رسول، أي: ما لهذا الذي يزعم أنه رسول يأكل الطعام؟ فعلى ذلك قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } وهو الذي به حياة الأبدان من هلاك الضلال، أي: من تمسك به نجا من هلاك الضلال.
وقوله - عز وجل -: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }، أي: بأمر ربي ينزل.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }، أي: من خلق ربي، وهما واحد.
وقال بعضهم: الروح: هو الملك وإنما سألوه عنه، كقوله:
{ تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا } [القدر: 4]: يعني: الملك.
وقال بعضهم: إنما سألوا عن الروح المعروف الذي به حياة الأبدان، لكنه لم يجبهم، فوكل أمره إلى الله لما لا يدركون ذلك لو بين لهم وأمثاله.
وروى عن أبي يوسف -رحمه الله - أنه كان ينهى عن الخوض في الكلام، ويحتج بظاهر هذه الآية؛ حيث سألوه عن الروح، فلم يجبهم، ولكن فوض أمره إلى الله، وما سئل من الأحكام إلا وقد بين لهم كقوله:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ... } الآية [البقرة: 219]، و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ... } الآية [الأنفال: 1]، و { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة: 220] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ } [البقرة: 222]، { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } [النساء: 127]، مثل هذا ما سئل عن شيء من الأحكام إلا وقد أجابهم وبين لهم بياناً شافياً، وقال هاهنا: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي }.
وقال جعفر بن حرب: إن الله قد أمر بالتكلم في الكلام بقوله:
{ وَجَٰدِلْهُم... } الآية [النحل: 125]، وقال: { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ... } الآية [الكهف: 22]. ونحوه، فكيف نهى عن الخوض في الكلام؟
لكن أبا يوسف إنما نهى عن الخوض في الكلام الذي لا يدرك ولا يزيد الخوض فيه إلا حيرة وضلالاً نحو ما روى عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"تفكروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق" لأنه لا يدرك، فالتفكر فيما لا يدرك لا يزيد إلا عمى وحيرة وتيهاً، وأمّا الخوض في الذي يدرك ويعقل فإنه لم ينه عن مثله.
وأصله: ما ذكرنا من إباحة التكلم في الدين والخوض في الكلام في كثير من الآيات من ذلك قوله:
{ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... } الآية [النحل: 125]. ونحوه.
قال الشيخ -رحمه الله -: أو لا نفسر الروح ما هو؟ لما لا يعلم ما أرادوا بالروح وهم قد علموا ما أرادوا.
أو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوا، وإنما سألوا ذلك عما في كتبهم؛ ليعلموا صدقه فيما يدعي من الرسالة؛ لما علموا أن غير الرسول لا يعلم ذلك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }.
قال بعضهم: أي: ما أوتيتم من العلم الذي به مصالحكم وما جاءكم إلا قليلاً.
وقال بعضهم: أي: ما أوتيتم من العلم الذي أنشأه والعلم الذي عنده إلا قليلاً، وهو هكذا: أنا لم نؤت من العلم إلا علم ظواهر الأشياء وباديها، لم نؤت علم بواطن الأشياء وحقائقها، وذلك أنا نعلم أن البصر يبصر، والسمع يسمع، واللسان ينطق، واليد تقبض وتأخذ، والرجل تمشي، والعقل يدرك، لكن لا نعلم المعنى الذي جعل فيه به يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يأخذ وبه يمشي وبه يدرك، وكذلك نعرف هذه الحيوانات التي نشاهدها ونعايشها بأن هذا حمار، وهذا ثور، وهذا كذا، ولكن لا نعرف المعنى الذي [به] صار هذا حماراً، أو هذا ثوراً، وكذلك كل جواهر وأجناس، فلا نعرف من العلوم التي أنشأها الله إلا القليل منها - ظواهرها - وأما الحقائق فلا.
وقوله - عز وجل -: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من يقول بأن الروح الذي سألوه عنه هو الوحي والقرآن الذي أنزل عليه يحتج بهذه الآية، وبقوله: { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } لما خرج ذكرها على أثر سؤال الروح، فدلّ أنه ما ذكرنا، وقد ضل بهذه الآية فريقان: الحشوية، والمعتزلة.
أمّا الحشوية فإنهم يقولون: إن القرآن والكلام هو صفة الله الذي هو لم يزل به موصوفاً، وإنه لا يزايله، ثم [إنهم] يقولون: القرآن في المصاحف بعينه وهو في الأرض وفي القلوب، فقولهم مناقض؛ لأنه إذا كان صفته لا هو ولا غيره، لا يجوز أن يكون في المصاحف بعينه أو في الأرض أو في القلوب.
قال الشيخ أبو منصور -رحمه الله -: أمّا الذي في المصاحف هذا ما يفهم به ذلك أو ما يوافق به ذاك - أعني: القرآن - ويقال: هذا حكاية عن ذلك.
وأما المعتزلة: فإنهم ينكرون خلق أفعال العباد، ثم يقولون: إن القرآن مخلوق؛ فعلى زعمهم يكون القرآن والكلام ما يكتب ويثبت ويمحى، وذلك فعل العباد، ثم يقولون: أفعالهم غير مخلوقة؛ فذلك تناقض في القول بيِّن.
وعلى قولنا: ما ذكر من الذهاب والمجيء كله على المجاز، أي: الموافقة لا على الحقيقة، كما يقال: سمعت كلام فلان وقول فلان، وكتبت حديث فلان ونحوه؛ فذلك كله على المجاز لا على التحقيق؛ لأنه لا يسمع قول فلان حقيقة ولا كلامه ولا حديثه، ولكن يسمع صوتاً يفهم به قوله وكلامه وحديثه، فعلى ذلك الأول يذهب بالذي يسمع ويكتب، فأما حقيقة ذلك فلا يوصف بشيء من ذلك.
وبعد: فإنه قد أضيف المجيء إلى الذي لا يعرف منه ذلك، ثم يحتمل قوله: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }، أن يكون صلة قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } حتى لا يظفر به، وإلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لو شاء لذهب بالذي أوحى إليه وقادر عليه وله رفعه، وكذلك يعرف هذا كل مؤمن.
وإن كانت الآية على الابتداء فهو يخرج على ذكر المنة والرحمة، أي: له أن يرفع هذا الذي أوحى إليه؛ ليعلموا أن إبقاء النبوة والوحي فضل منه ورحمة، وكذلك الوحي إليه في الابتداء وبعثه رسولاً إليهم فضلاً واختصاصاً لا استحقاقاً منه واستيجاباً، كقوله:
{ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [البقرة: 105]، وقوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [آل عمران: 73] أخبر أن النبوة له وما أرسل إليه اختصاصاً منه وفضلاً، لا استحقاقاً منه؛ فعلى ذلك إبقاء النبوة والوحي رحمة وفضل منه.
وفيه دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه:
أحدها: ما قالوا: إنه لا يختار الله أحداً لرسالته ونبوته إلا من كان مستحقّاً لها ومستوجباً لذلك، وقد أخبر أنه بفضله واختصاصه أرسله رسولاً، وبفضله ورحمته أبقاها وتركها بعدما أوحى إليه وأرسله رسوله.
والثاني: فيه أن له أن يفعل ما ليس هو بأصلح لهم في الدين، حيث أوعد لهم برفع ما أوحى إليه [وأرسله] وإذهابه إياه، ولا يوعد إلا بما له أن يفعل ما أوعد؛ إذ لا يوعد بما ليس له الفعل في الحكمة، ثم لا شك أن إبقاء النبوة وترك ما أوحى إليه أصلح لهم من رفعها وتركه إياهم خلوّاً عن ذلك، دلّ أنه قد يفعل ما ليس لهم بأصلح لهم في الدين.
وفيه أنه قد يكلف خلقه التوحيد والإيمان وإن لم يرسل رسولاً ولا أوحى إليه وحياً؛ لأنه معلوم أنه لو لم يرسل الرسول، ولا كانوا مكلفين في أنفسهم، لكان خلقه إياهم عبثاً ليتركهم سدى؛ فدل أنهم مكلفون بتوحيده ومعرفته وإن لم يرسل ولا أوحى؛ حيث أخبر أن بعث الرسالة وإبقاءها فضل منه ورحمة بقوله: { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً }:
وقوله: { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ }.
أي: إبقاء النبوة والوحي رحمة من ربك، وفضله - أيضاً - في إبقاء ذلك كبيراً.
وفيه أن الحفظ والنسيان - وإن كانا من العبد - فلله فيهما صنع به يحفظ؛ حيث قال: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }، أخبر أنه لو شاء، لذهب بالمحفوظ في القلب وينسيه؛ دلّ أن له قدرة في فعل العبد.
وفي قوله: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } وجه آخر من الحكمة؛ وهو أن يعلم المؤمنون: أن الفضل كله من الله؛ لئلا يروا لأنفسهم في ذلك فضلاً ومعنى، وإليه يضيفون جميع ما يجرى على أيديهم من أفعال الخير والطاعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }.
يشبه أن يكون هذا صلة قوله: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }، ثم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه، وقوله: بمثله، أي: به، كقوله:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] أي: ليس كهو شيء؛ إذ لا مثل له؛ فدلّ أن قوله: { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }، أي: لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه وعاينوه؛ فلئلا يقدروا على إتيانه ابتداء قبل أن نظروا فيه وعرفوا مثاله - أشدّ وأبعد؛ إذ نظم الشيء وتصوره بعدما عاينوا الأشياء والصّور أهون وأيسر من تصويرها ونظمها قبل أن يعاينوها ويشاهدوها.
وجائز أن يستدل بهذه الآية على أنه كان مبعوثاً إلى الإنس والجن جميعاً حيث قال: { لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ }؛ لأنه لو لم يكن مبعوثاً إلى الفريقين جميعاً لم يكن لذكرهما معنى وفائدة.
وفيه دلالة: أن في الجن من لسانه لسان العرب؛ إذ لو لم يكن [كذلك، لم يكن] لذكر أولئك [معنى] ثم جائز أن يكون قوله: { لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ }، أي: الإنس مع الجن، أو هؤلاء مع هؤلاء، { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }.
وقال بعض أهل التأويل: إنما ذكر هذا لقولهم: إنه سحر وإنما يعلمه بشر [النحل: 103] وقولهم:
{ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } [سبأ: 43] وقولهم: { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً } [المؤمنون: 38]، ومثله، يقول: إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين، من الجن والإنس، فأخبر أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه.
والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك، ولم يطمع أحد منهم ذلك إلا سفيه أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن؛ حيث قال:
{ لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 31-32] لم يسأل التوفيق إن كان هو حقّاً، ولكن سأل العذاب؛ دلّ أنه كان سفيهاً، فآية السفه: { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [الأنفال: 31]، ثم ارتاب فيه وشك بقوله: { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الأنفال: 32] وإلا لم يطمع ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك، دلّ أنه آية معجزة من الله تعالى.
ثم اختلف في قوله: { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ }.
قيل: مثل نظمه ورصفه.
وقيل: مثل حقه وصدقه.
ويحتمل مثل حججه وبراهينه.
ويحتمل مثل علمه وحكمته.
ويحتمل مثل إحكامه وإتقانه.
يحتمل قوله: { عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } هذه الوجوه الخمسة التي ذكرنا.
ثم قوله: { بِمِثْلِهِ } يحتمل ما ذكرنا؛ أي: بالذي رفع وذهب به؛ على التأويل الذي جعلناه صلة قوله: { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ }، { لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ } الذي ذهب به ورفع { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ }، أي: لا يقدرون على إتيانه.
وإن كان على الابتداء، فهو على المثل؛ أي: لا يقدرون على أن يأتوا بمثله، على ما لم يقدروا عليه بعدما قرع سمعهم هذا فلو كان في وسعهم هذا لفعلوا؛ ليخرج قولهم صدقاً وقول الرسول كذباً، فإذا لم يفعلوا ذلك، ولم يتكلفوا؛ دل أنهم عرفوا أن ذلك من الله وأنه آية معجزة خارجة عن وسعهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا }.
أي: بيّنا، وتحتمل ضربنا، وتحتمل فرقنا للناس:
{ مِن كُلِّ مَثَلٍ }، أي: ذكرنا للناس مثلاً على أثر مثل، ومثلاً بعد مثل ما لو تفكروا فيه، وتأمّلوا لعرفوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب أنفسهم وسفههم، ولعرفوا الحق من الباطل والمحق من المبطل، ولكن لم يتفكروا فيه ولم يتأمّلوا وعاندوا.
وقوله - عز وجل -: { مِن كُلِّ مَثَلٍ }.
لا يريد كل الأمثال، ولكن ما ذكرنا من كل مثل لو تأملوا فيه، وتفكروا، لكان لهم معتبراً.
وفي قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }، يكون ما ذكر من تصريف الأمثال وضربها للناس من وجوه ثلاثة:
أحدها: ضرب المثل لهذه الأمة من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيره من مكذّبهم ومصدّقهم بالأمم الماضية ماذا حلَّ بهم بالمكذبين منهم رسل الله من نقمته وعذابه، وقدر أخبر أن تلك سنته في المكذبين منهم، وذكر أن سنته تلك لا تحول، ولا تبدل، [وهو قوله:
{ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 62]، و{ تَحْوِيلاً }، فهي لا تبدل، ولا تحول فكانت لأولئك معجلة ولهذه الأمة مؤخرة] وهي غير محوّلة ولا مبدّلة لواحدة من الأمم.
والثاني: يحتمل تصريف الأمثال هو ما بين لهم، وذكر ما به صلاح معاشهم ومعادهم، وصلاح دينهم ودنياهم ما لو تأمّلوا فيه وتفكروا، أدركوا ذلك.
والثالث: يكون تصريف الأمثال التي ذكر دعاءه إلى دين الله وسبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، كقوله:
{ ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } [النحل: 125].
إلى هذه الوجوه الثلاثة يصرف جميع ما ذكر من الأمثال في القرآن والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } يحتمل أبي أكثر الناس إلا كفوراً بالأمثال التي ضربها في القرآن، وصرفها لهم.
أو يقول: فأبى أكثر الناس إلا كفوراً بنعم الله في صرف الشكر إلى غيره، أو كفوراً في وحدانية الله وألوهيته.