التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
١٥
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
-الكهف

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { أَمْ حَسِبْتَ }.
قيل: أحسبت.
وقيل: قد حسبت.
ويحتمل بمعنى: بل حسبت، كقوله:
{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَىٰ } [الشورى: 24] أي: بل يقولون، فعلى ذلك قوله: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ }.
وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من الله يكون على الإيجاب والإلزام، ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الأمر: احسب واعلم: أن أبناء الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً.
أو ما ذكرنا: بل حسبت، وهو كذلك.
أو يقول: لا تحسبن أن أصحاب الكهف والرقيم من آياتنا عجبٌ ليس أعجب منها، بل أتاك آيات أعجب منها بكثير، والله أعلم.
ثم اختلف في { وَٱلرَّقِيمِ } قال بعضهم: { وَٱلرَّقِيمِ }: الكتاب؛ كقوله:
{ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [المطففين: 9]، أي: مكتوب.
وقال بعضهم: { وَٱلرَّقِيمِ }: الوادي الذي فيه كهفهم.
وقيل: { وَٱلرَّقِيمِ }: اللوح الذي كتب فيه أسامي الفتية.
وقيل: { وَٱلرَّقِيمِ }: القرية التي خرجت الفتية منها وكذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: ما أدري ما الرقيم؟ لكني سألت كعباً عنها فزعم أنها القرية التي خرجوا منها.
وقيل: { وَٱلرَّقِيمِ }: الكلب الذي كان معهم.
قالوا أمثال ما ذكرنا، وليس بنا إلى معرفة الكهف والرقيم حاجة، إنما ذلك بلسانهم ولم يسألوا عن الكهف والرقيم، وإنما سألوا عن أصحاب الكهف والرقيم مما ينبغي لهم أن يشتغلوا به.
ثم قال أهل التأويل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قصة أصحاب الكهف والرقيم وأنبائهم، فقال: أخبركم غداً ولم يستثن، فعاقبه الله فيه أن حبس عنه الوحي كذا وكذا يوماً، فنزل:
{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الكهف: 23-24].
لكن ذلك فاسد، وما توهموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم محال؛ لأنه كذب لا يجوز أن يكون رسول الله يقول: (أخبركم غداً) والله لم يأمره بذلك، أو قال ولم يستثن؛ فيحبس الله الوحي عنه، ولا يخبرهم في الوقت الذي قال إنه يخبرهم؛ فيظهر كذبه عندهم بعدما اختاره لرسالته، واصطفاه لموضع وحيه، ثم يكذبه فيما أخبر؛ هذا فاسد محال غير محتمل ما توهموا به على الله وعلى رسوله، قد كان من كفار مكة السعي في منع رسول الله عن تبليغ الرسالة إلى الناس، والحيلولة عن الدعاء إلى ما أمر أن يدعوهم، واستقبال حججه وبراهينه بتمويهاتهم، وقد ذكر في غير قصة وخبر: أنهم سألوا اليهود عنه، وعن نعته: هل تجدون نعته في كتبكم؟ أن لم يكونوا أهل كتاب يعلمون ذلك؛ فاحتاجوا إلى من يعلمهم ويخبرهم عنه، فسألوا يهود المدينة عنه وعن خبره، فقالوا: نجد نعته في كتابنا كما يقولون، فهذا وقت خروجه وأوانه، فقالوا لهم: حدثونا بشيء نسأله لا يعلمه إلا نبيّ، فقالوا: سلوه عن ثلاث خصال، فإن أجابهن، فهو نبي، وإلا فهو كذاب، اسألوه عن أصحاب الكهف، واسألوه عن ذي القرنين فإن كان ملكاً، وكان من أمره كذا وكذا، واسألوه عن الروح، فإن أخبركم فهو نبي، وإن لم يخبركم فهو كذاب، فسألوه، فأخبرهم عن ذلك.
وفي بعض القصة: اسألوه عن الروح، فإن أخبركم عنه، فهو ليس بنبيّ وإن لم يخبركم، ولكنه وكل أمره إلى الله فهو نبي.
ثم قوله: { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً }:
يحتمل أن يكون الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد به غيره، على ما خاطبه في غير آي من القرآن والمراد به غيره.
ويحتمل أن الخطاب له والمراد هو، وإن كان هو المخاطب بهذا، فإنه يحتمل قوله: { أَمْ حَسِبْتَ... } إلى آخره وجهين:
أحدهما: يقول: قد حسبت أن أنباءهم وأخبارهم كانت من آياتنا لرسالتك ونبوتك عجباً؛ فيكون الحساب على هذا التأويل في موضع العلم واليقين، كأنه قال: قد علمت أن أنباء أصحاب الكهف وأخبارهم آية عجيبة لرسالتك.
والثاني: إخبار عن أحوالهم وتقلبهم من حال إلى حال، فإن كان على هذا، فيكون الحسبان في موضع الحسبان، كأنه قال: قد حسبت أن أحوالهم وتقلبهم كان من آياتنا عجباً، هذا إذا كان الخطاب به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمّا إذا كان الخطاب به لغيره، فإنه يجوز على الحسبان والظن وغيره، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ }: أي: انضم.
قال بعضهم: الكهف: الغار في الجبل.
وقيل: الفضاء.
وقيل: الملجأ.
ولكن قد ذكرنا: أنا لا ندري ما الكهف وما الرقيم؟ ذلك بلسانهم، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، وهم الفتية اسم الأحداث منهم والشبان، لا اسم المشيخة، ثم يكون المماليك والخدم، ويكون الأحرار، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً }:
قال الحسن: { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي: جنة، { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } أي: يسيراً، وهو ما ذكر في قوله: { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }.
فهذا ليس بدعاء، إنما هو تلقين وإلهام منه إياهم، فيكون تفسيراً للأول.
وقال بعضهم: قوله: { آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي: رزقاً؛ لأنهم كانوا يفارقون قومهم؛ لكفرهم؛ ليسلم لهم دينهم الذي هم عليه، وهو الإسلام، وقد عرفوا أنه يسع مفارقة الناس طلباً لسلامة الدين، ولكن لم يعرفوا أنه يسع قوتهم، وما به قوام أنفسهم إلى مكان خال عن ذلك فسألوا ربهم الرزق؛ إشفاقاً على أنفسهم بقولهم: { آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي: رزقاً { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } أي: احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا: أنهم عرفوا سعة المفارقة للدين، ولكن لم يعرفوا سعة ذلك؛ إذا كان فيه خوف هلاك أنفسهم، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد والصواب.
ويحتمل { آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً }: نعمة وسعة، وهيئ لنا من أمر ديننا صواباً، يقول { آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً }.
وقوله عز وجل: { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً }:
الضرب على الآذان: هو المحو، محو الأسماع، ويقال: اضرب على حديث كذا: امحه.
ثم يحتمل محو الأسماع وجهين:
أحدهما: محو الأرواح التي بها تحيا الأنفس؛ فيكون كناية عن الموت.
أو يكون محو أرواح الأسماع التي تسمع لا الموت، فلما قال في آية أخرى:
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } [الكهف: 18] دل أنه إنما أراد محو أرواح الأسماع، لا محو الأرواح التي بها حياة الأنفس، وهو كقوله: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّٰكُم بِٱلَّيلِ... } الآية [الأنعام: 60]. وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ }، من رقودهم؛ { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي: لنعلم ما قد علمناه غائباً شاهداً؛ إذ كان عالماً بما يكون منهم، وتأويله: ما ذكرنا: ليعلم الخلق شاهداً، كما علم هو غائباً.
أو ليعلم المخطئ منهم من المصيب، إذ محال وصفه بالعلم بالمخطئ ولا مخطئ ثم، وبالمصيب ولا مصيب ثمة، فإذا كان كذلك فيكون قوله: ليعلم المخطئ من المصيب، والمصيب من المخطئ إذا كان، وأصله: أنه يعلمه كائنا على ما علم أنه يكون.
وقوله - عز وجل -: { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً }.
يحتمل: { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } قال بعضهم: مشركيهم ومؤمنيهم.
ومنهم من قال: الملك والفتية.
وقال بعضهم: هم اختلفوا في مكثهم إذ بعثوا.
قال بعضهم: { لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }، وقال بعضهم: { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } ولكن لسنا ندرى من أي الحزبين، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة، سوى أنا ذكرنا قول أهل التأويل.
وقوله - عز وجل -: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ }، الحق في النبأ: الصدق، والحق في الأحكام: العدل، وفي الأفعال: الصواب.
وقال بعضهم: الحق - هاهنا -: هو القرآن، فيكون قوله: { بِٱلْحَقِّ } أي: في الحق، وهو القرآن، أي: نقص عليك نبأهم في القرآن، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }.
هذان الحرفان معناهما واحد: الزيادة والربط، كل واحد منهما يؤدي معنى صاحبه زيادة الهدى، أي: ثبتناهم على الهدى.
ويجوز أن يقال: هو التثبيت والربط.
وكذلك يجوز أن يقال على التجديد والابتداء، إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت؛ إذ هو يكون منكراً جاحداً للكفر في كل وقت؛ فهو مجدد للإيمان كذلك في كل وقت؛ فإن شئت حملته على الثبات والزيادة على ما كان، وإن شئت على الابتداء والتجدد، وكذلك قوله:
{ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [التوبة: 124].
وقال الحسن في قوله: { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } أي: من حكم الله أن من اهتدى زاده هدى؛ كقوله:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17]، لكن هذا لو كان على ما ذكر، لكان لا يجوز أن يكفر إذا اهتدى مرة، لا يزال يزيد له هدى، فإذا لم يكن دلّ أنه لا يصح ذلك، والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا }.
يحتمل قوله: { إِذْ قَامُواْ } بالحجج والبراهين.
ويحتمل: { إِذْ قَامُواْ } بالنهوض إلى الكهف، حين انضموا إليه.
أو قاموا لله ولدينه.
أو قاموا من عند أولئك الكفرة، فقالوا ما ذكر: { رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي: قالوا: ربنا هو رب السماوات والأرض ورب ما فيهن.
وقوله - عز وجل -: { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً }.
يحتمل قوله: { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً } أي: لن نسميهم آلهة؛ على ما سمى قومهم الأصنام التي عبدوها: آلهة.
وقوله - عز وجل -: { لَّقَدْ قُلْنَا }.
من دونه إلهاً، فسموهم: آلهة، على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ كقوله:
{ فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ } [الصافات: 91] وقوله: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه: 97] لا يجوز أن يسمي الأنبياء الأصنام التي كانوا يعبدونها: آلهة، وهي ليست بآلهة، ولكن قالوا ذلك على زعمهم، وعلى ما عندهم؛ فعلى ذلك قوله:
{ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً }، أي: لن نعبد، فإن كان على العبادة، ففيه إضمار، أي: لن نعبد من دونه إلهاً غير الله، كفعل قومنا، ولو فعلنا لقد قلنا شططاً، أي: جوراً وظلماً.
ثم قال: { هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً }: يعبدونها { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ }، أي: هلا يأتون على تسميتهم آلهة أو استحقاق العبادة لها بحجة بينة.
ثم حرف (هلا) يستعمل في الماضي، ويستعمل في المستقبل، فإن كان على الماضي فهو على الإنكار، أي: لم يكن؛ وإن كان على المستقبل فهو على السؤال، أي: ائتوا بحجة بينة على أنها آلهة، كما أتوا هم: أن الله هو الإله الحق، وأنه خالق السماوات والأرض، ورب ما فيهما.
قال القتبي: { فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ } أي: أنمناهم، والأمد: هو الغاية، { وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ }، أي: ألهمناهم الصبر، وثبتنا قلوبهم.
وقوله: { شَطَطاً }، أي: غلوا، يقال: أشط على؛ إذا غلا في القول.
وقوله - عز وجل -: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً }.
أي: لا أحد أظلم ممن جعل مع الله آلهة، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }، وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله) فتأويل الآية على القراءة الظاهرة: وما يعبدون إلا الله، أي: وإن اعتزلتموهم، والذين لا يعبدون إلا الله، فلا تعتزلوا عبادته؛ لأنه كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون الله أيضاً ويرونه معبوداً؛ فكأنهم قالوا: وإذا اعتزلتموهم والذين يعبدون إلا الله فلا تعتزلوه، وهو كقول إبراهيم - عليه السلام - لقومه حيث قال:
{ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ ٱلأَقْدَمُونَ... } الآية [الشعراء: 75-76] استثنى عبادة رب العالمين من بين عبادة من يعبدون من دونه؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام، ويعبدون الله ويرونه معبوداً؛ إلا أن بعضهم لا يرون أنفسهم بلغت مرتبة عبادة الله، فيعبدون الأصنام؛ رجاء أن تشفع لهم عنده، أو تقرب عبادتهم إلى الله زلفى وأمثاله.
وجائز أن يكون قوله: { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ }: على التقديم والتأخير، أي: وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف؛ لأنهم كانوا لا يعبدون إلا الله يعني: أصحاب الكهف.
والثاني: ما ذكرنا: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدونهم في الحقيقة إلا الله، وإن كانوا في الظاهر يعبدون غير الله.
وتأويل قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: وإذ اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون من دون الله.
ويحتمل أن يكون هذا منهم ليس على القول والنطق؛ ولكن ألقى في قلوبهم وقذف: أنهم إذ فارقوا قومهم وباينوا يأوون إلى الكهف وينشر لكم ربكم من رحمته.
وقال الحسن: إن في قومهم من قد آمن سواهم؛ فقالوا: إنكم إذا باينتم وفارقتم فأووا إلى الكهف، فلا تقعدوا معهم فلعلهم يلحقونكم ويطلبون لقاءكم، فلا تقعدوا معهم.
ويشبه أن يكون قوله:
{ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ }، لما عزموا أن يفارقوا قومهم اعترض لهم الشيطان، فقال: إنكم تفارقون قومكم إلى مكان، وليس معكم شراب ولا طعام؛ فتهلكون أنفسكم؛ فدفعوا وساوسه؛ بقوله: { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }.
ثم قوله: { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ }، قال بعضهم: يخلق لكم ربكم، كقوله:
{ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا } [البقرة: 259] بالراء، أي: كيف نخلقها.
وقال بعضهم: { يَنْشُرْ لَكُمْ }، أي: يبسط، والنشر: هو البسط.
قوله عز وجل: { مِّن رَّحْمَتِهِ }: يحتمل الرزق، ويحتمل كل شيء به يدفع الهلاك عن أنفسهم.
وقوله - عز وجل -: { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً }.
أي: ما ترفقون به وتنتفعون به، وهو قول أبي عوسجة، وهو من الرفق، والمرفق - أيضاً - مثله؛ لأنه: ينتفع [به].
وقال القتبي: { مِّرْفَقاً }: ما يرتفق به.
وقال أبو عبيدة: المِرْفق: ما ارتفقت به، فأما في اليدين فهو مَرْفِق، والله أعلم.