التفاسير

< >
عرض

كۤهيعۤصۤ
١
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
٢
إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
٣
قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً
٥
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
٦
-مريم

تأويلات أهل السنة

قوله: { كۤهيعۤصۤ }.
قيل: اسم من أسماء القرآن.
وقيل: اسم من أسماء الله تعالى، وعلى ذلك روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: يا كهيعص، اغفر لي.
قال أبو بكر الأصم: لا يصح هذا من علي؛ لأن هذا لم يذكر في أسمائه المعروفة التي يدعى بها.
وقال بعضهم: حروف من أسماء الله افتتح بها السورة فهو ما ذكرنا، وهو الأوّل، وقال بعضهم: الكاف مفتاح اسمه كافٍ، والهاء مفتاح اسمه هادٍ، والعين مفتاح اسمه عالم، والصاد مفتاح اسمه صادق.
وقال ابن عباس: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق.
وقال الربيع بن أنس: الياء من قوله:
{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون: 88].
وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله على نفسه؛ فقال: كافٍ هادٍ عالمٍ صادقٍ، يقول: كافٍ لخلقه، هادٍ لعباده، عالم ببريّته وبأمره، صادق في قوله.
وقال بعضهم: لم ينزل الله كتاباً إلا وله فيه سرّ لا يعلمه إلا الله، وسرّ القرآن فواتحه.
وقال بعضهم: تفسيره ما ذكر على أثره، وهو قول الحسن، وأمثال هذا قد أكثروا فيه، وقد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع.
وقوله - عز وجل -: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: على الأمر، أي: اذكر لهم رحمة ربك عبده زكريا بالإجابة له عند سؤاله الولد في الوقت الذي أيس عن الولد في ذلك الوقت؛ فيكون فيه دلالة رسالته، حيث ذكر لهم رحمة ربه على زكريا، وأخبرهم على ما في كتبهم.
والثاني: { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ }: هذا ذكر رحمة ربك لعبده زكريا في دعائه، وعلى هذا التأويل يكون الذكر هو القرآن، وقد سمى الله القرآن: ذكراً في غير آي من القرآن، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }.
قال بعضهم: نداءً خفيّاً في قلبه على الإخلاص من غير أن ينطق به.
وقال بعضهم: نداءً خفيّاً عن قومه ومن حضره.
ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: أخفاه وأسرّه منهم إخلاصاً لله وإصفاء له.
والثاني: أخفاه وأسره منهم حياء أن يعيبوه أن سأل ربه الولد في وقت كبره وإياسه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعف ورق { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً }: اعتذر إليه، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد، أي: بلغت المبلغ الذي ضعف بدني، ورق عظمي، ثم سأل ربه الولد ليس على أنه كان لا يعرف قدرة الله أنه قادر على هبة الولد، وإنشائه في كل وقت في وقت الكبر والضعف، وبالسبب وبغير السبب؛ لكنه لأنه لا يعرف أنه [لا] يسع ويصلح سؤال الولد وهبته في الوقت الذي كان بلغ هو، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب، وهو ما ذكر في سورة آل عمران:
{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [آل عمران: 37] فعند ذلك عرف زكريا أنه يسعه دعاء هبته الولد وسؤاله في وقت الإياس، حيث رأى [عند] مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها، فسأل عند ذلك ربه الولد، وهو قوله: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً... } الآية [آل عمران: 38]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً }.
قال بعضهم: أي: كنت تعودني الإجابة في دعائي إياك فيما مضى.
وقال بعضهم: أي: لم يكن دعائي مما يخيب عندك، وهما واحد، ذكر مننه وفضله [الذي] كان منه إليه.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى }.
قال الحسن: خاف مواليه أن يرثوا ماله، فأما علمه ونبوته فمما لا يورث.
قال أبو بكر الأصم: هذا لا يصح، لا يحتمل أن يخاف زكريا وراثة ماله مواليه؛ فيسأل ربه لذلك الولد ليرثه ماله، ولكن خاف أن يُضَيِّعَ مواليه دينه وسننه من بعده؛ فسأل ربه أن يهب له الولد ليقوم مقامه في حفظ دينه وسننه.
وقال: لا يحتمل وراثة المال؛ لما روي في الخبر: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، فلا يخلو هذا من أحد وجهين:
إمّا أن كان هذا في المال له خاصّة دون سائر الأنبياء، وإما إذَنْ لم يكن زكريا نبيّاً فدلّ هذا أنه لا يحتمل وراثة المال فدلّ أنه على العلم: أن يضيع الموالي علمي من ورائي.
ويحتمل قوله: { وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى }، وسؤاله الولد وجهاً آخر، وهو أنه سأل ربه الولد الرضى الطيب؛ ليذكر هو به بعد وفاته بالأعمال والصنيع الذي كان منه في حياته، ويُدْعَى له، لئلا ينقطع ذكره، ودعاء الخلق له، وهذا هو المعروف في الخلق أنهم يذكرون ويدعون لهم بالخيرات التي كانت في حال حياتهم، إذا كان له ولد صالح فعلى ذلك سؤال زكريا الولد، والله أعلم.
وقوله - عزّ وجل -: { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } أي: لا تلد.
وقوله - عز وجل -: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي } أي: يلي أمري.
وقوله: { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ }.
قال بعض أهل التأويل: ما ذكرنا: يرثني مالي، ويرث من آل يعقوب النبوة، وقيل: { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } وارثاً يرثني مكاني، ونبوتي، ويرث من آل يعقوب الملك؛ لأنهم كانوا ملوكاً، وكانوا أخواله، وهو كان حَبْراً، والله أعلم بذلك.
ولكن قوله: { يَرِثُنِي } ما كان له من العلم والحكمة والدّين وغيره، ويرث من آل يعقوب ما كان لهم من العلوم وغيرها، فإن ثبت أن آل يعقوب كانوا أخواله، ففيه دلالة أن ذوي الأرحام يرثون بعضهم من بعض، والله أعلم.