قوله: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }.
نقول - والله أعلم: حيثما كنت من المدائن والبلدان { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ }، شطره: تلقاءه ونحوه وجهته.
وهذا يبطل قول من يقول: إن الحرم قبلة لمن نأى عن البيت، وبعد من أهل الآفاق، حيث أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام حيث ما كانت من البلدان. وبالله العصمة والتوفيق.
وقال الشيخرحمه الله تعالى: ذكر المسجد، ومعناه موضعاً منه عرف ذلك بالفحص من البقاع البعيدة والأمكنة الخفية، لا بالظاهر ولا ذكر وصل البيان به.
وقوله: { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }.
قيل: { وَإِنَّهُ } تحويل القبلة، هو الحق { مِن رَّبِّكَ }.
وقيل: { وَإِنَّهُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الحق { مِن رَّبِّكَ } [ويحتمل يعني: القرآن هو الحق من ربك].
وقوله: { وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } على ما ذكرنا.
وقوله: { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }.
خاطب الكل، وأمرهم بالتوجه إليه حيثما كانوا، حتى لا يكون هو المخصوص به دونهم.
وقوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }.
تأويل هذا الكلام - والله أعلم - أنه لما اختار اليهود ناحية المغرب قبلة، والنصارى ناحية المشرق بهواهم، فأنزل الله عز وجل: { للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 142]، وقال: فأينما تولوا وجوهكم شطره، فثم وجه الله. فيقطع عذرهم وحجاجهم بما بين في كتب لهم أنه يحولهم. وذلك معنى قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ }.
وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }.
ثم اختلف في قوله: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ }.
قيل: أراد بـ"الناس" أهل الكتاب، وأراد بـ"الذين ظلموا" غيرهم من الكفرة.
وتأويله: لئلا يكون لأهل الكتاب عليكم حجة، ولا الذين ظلموا.
وقيل: { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } يعني أهل الكتاب { عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } فيقولوا: ليس هذا الوصف في كتبهم أنه يصلى إلى بيت المقدس وقتاً ثم يتحول إلى الكعبة، { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } يقول: إلا من ظلم منهم عليكم في الكلام بلا حجة ولا دليل فيقولوا: ليس هذا الوصف. ومثل هذا جائز في الكلام، يقول لآخر: ليس لك على حجة إلا أن تظلمني بلا حجة.
وقال الفراء: هذا كما يقول الرجل الآخر: الناس لك حامدون إلا الظالم المتعدي عليك، صواب في المعنى، خطأ في العربية. وذكر بيتاً يدل على الجواز.
ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروان
بمعنى: ولا دار مروان.
وقيل أيضاً: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي } على القطع من الأول والابتداء بهذا، أي: لا تخشوا الذين ظلموا في الضرر لكم، ولكن اخشوني في ترككم إياها، وأن يقال: لا تخشوهم بالقتال والغلبة، فذلك لهم منه أمن وإظهار على الأعداء، وعلى هذا يخرج قوله: { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } يعني الأمن من الأعداء، [ولا نعمة أعظم من الأمن وإظهار الحق كقوله: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3] قيل: هو الأمن من الأعداء] أو أراد بالنعمة كل نعمة من الإسلام، والنصر، وغيره.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } القبلة.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } الإرشاد والصواب.
وقوله: { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }.
{ كَمَآ } حرف لا يصح ذكره إلا على تقدم كلام؛ إذ هو حرف عطف ونسق، وهو - والله أعلم - كما أرسلنا إليكم رسولاً، وأنعم عليكم بمعرفة وحدانيته وبمعرفة محاجة الكفرة وأنعم عليكم بإكرامه إياكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، كذلك يجب عليكم أن تذكروه وتشكروا له.
ويحتمل على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التفسير: كأنه قال: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم، وذلك في القرآن كثير.
قال الفراء: يحتمل: كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم أذكركم، فيكون فيه جوابه؛ لذلك جزم، وهذا كقول الرجل: كما أحسنت فأحسن.
وقوله: { وَيُزَكِّيكُمْ }، قال ابن عباس - رضي الله عنه -: يأخذ زكاة أموالكم، ففيه زكاتهم.
وقيل: { وَيُزَكِّيكُمْ } يدعوكم إلى ما به زكاة أنفسكم وصلاحها، وهو التوحيد، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وقوله: { وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ } هو القرآن.
{ وَٱلْحِكْمَةَ }، قيل فيه بوجوه:
قيل: "الحكمة": الفقه.
وقيل: "الحكمة": الحلال والحرام.
وقيل: "الحكمة": السنة.
وقيل: "الحكمة": المواعظ.
وقيل: "الحكمة": هي الإصابة؛ ومنه سمي الحكيم حكيماً؛ لأنه مصيب.
وقال الحسن: { ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ }: واحد، وهو على التكرار؛ كقوله: { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل: 1]، وهما واحد.
وقوله: { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } من التوحيد، والشرائع، والمحاجة مع الكفرة، وما أكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما أنعم عليهم من أنواع النعم.
وقوله: { رَسُولاً مِّنْكُمْ }: خاطب العرب، وذكرهم بما أنعم عليهم من بعث الرسول فيهم ومنهم، وإنزال الكتاب بلسانهم وهم كانوا يتمنون ذلك، كقوله: { لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [الأنعام: 157]، فمنّ عليهم بذلك، وبه استوجبوا الفضيلة على غيرهم، وكفى بهم فضلاً، وقوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [فاطر: 42].
وقوله: { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }.
قيل: { فَٱذْكُرُونِيۤ } قيل: بالطاعة في الدنيا، { أَذْكُرْكُمْ } في الآخرة بالتجاوز عن سيئاتكم.
وقيل: اذكروني في الرخاء والسعة، أذكركم في الضيق والشدة.
وقيل: اذكروني في الخلوات، أذكركم في ملأ الناس وأذكركم في ملأ من الملائكة.
ويحتمل: اذكروني بالشكر بما أنعمت عليكم، أذكركم بالزيادة عليها. والله أعلم.
وقوله: { وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ }، أي: وجهوا شكر نعمتي إليّ، ولا تشكروا غيري.
ويحتمل: { وَٱشْكُرُواْ لِي }: أي وجهوا العبادة إليّ، { وَلاَ تَكْفُرُونِ }: ولا تعبدوا غيري. والله أعلم.