التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

تأويلات أهل السنة

وقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }.
تكلموا فيه بأوجه:
قيل: إنه منسوخ بما بين عز وجل في آية أخرى من حق الميراث.
ومنهم من قال: لم ينسخ.
ثم قيل: فيه بوجهين:
قيل: إنه قد كان ذلك؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد في الإسلام، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه. فقوله: { كُتِبَ } إنما وقع على من كان لا يرث.
ومنهم من يقول: بأنها كانت للوارث ولم ينسخ، وإنما يقع الأمر في غير من يرث ممن ذكر. لكن في ذلك ذكر (كتب)، وذلك إيجاب.
ولا يحتمل أن يفرض عليهم صلتهم مع التحذير عن اتخاذهم أولياء بقوله:
{ { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } [التوبة: 23]، وقوله: { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [المجادلة: 22]، وفي إلزام الفرضية من حيث المعروف إبقاء الموالاة وإلزام المحبة، وقد حذر وجود ذلك؛ فثبت أن الآية فيمن يتوارثون اليوم لكنها نسخت. والله أعلم.
ومنهم من يقول: لا، ولكنه وقع على من كان يرث وعلى من كان لا يرث بقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ }، فهو كان مكتوباً عليهم مفروضاً في حق الوصاية.
ثم من رأى نسخه استدل بقوله:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } [النساء: 11]، ذكر فيه الوصاية على بيان كل ذي حق حقه. فليس الذي أوصى الله يمنع وصايته التي كتب عليهم. لكن في الآية دليل لم ينسخ بهذه لوجهين:
أحدهما: قوله:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } [النساء: 11]. فهو وصيته ذكره كذكر الوصاية في الأول، ففيه جعل حق كالحق المجعول لهم إذا لم يذكر ذلك الوصية مع الميراث ثم نفاه.
والوجه الآخر: أنه قال:
{ { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [النساء: 12]، فجعل حكم الإرث على ذكر الوصية، والإرث بعد الوصية؛ فبان أن لها حكم البقاء.
ثم قيل: فيه بوجهين:
قال قائلون: قوله:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ } [النساء: 11]، لم يكن ميراثاً، ولا هو من أهل الميراث. فحدوث الإرث لا يمنع حق القطع عنه بالمكتوب الأول.
ومنهم من جعل ذلك فيمن كان وارثاً. فورود البيان من بعد يقطع عنه المكتوب له.
ثم من الناس من ادعى نسخ هذا بقوله:
{ { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [النساء: 7]، ولو جعل الوصية له ما جعل الله لهم فيه من النصيب خص به الكثير دون القليل؛ فثبت أن ذلك (الكتاب) رفع عنهم مما جعل لهم الحق في الذي قل أو كثر.
ثم الوجه فيه عندنا: فهو أنه إن لم يكن نسخ بهذه الآيات، على ما قاله بعض الناس، فهو منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" . فبين أنه قد كان أعطى ذا حق حقه على رفع ما كانت لهم من الوصاية فيه.
ثم اختلفوا في الخبر الذي روي:
"إن الله تبارك وتعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" .
قال قائلون: فلا يجوز ورود النسخ على الآية؛ إذ السنة لا ترد على نسخ الكتاب.
وقال آخرون: لا، ولكنه من أخبار الآحاد. وأخبار الآحاد، على قولكم، لا ترد على نسخ خبر مثله، فكيف على كتاب رب العالمين؟
فأما الأول - في أن السنة لا تعمل في نسخ الكتاب-: فقد سبق القول فيه، أن الذي حملهم على هذا هو جهلهم بموقع النسخ، وإلا لو علموه ما أنكروه. وهو ما قلنا: إن النسخ بيان منتهى الحكم إلى الوقت المجعول له.
فأما من قال: بأنه من أخبار الآحاد، فإن الأصل في هذا أن يقال: إنه من حيث الرواية من الآحاد، ومن حيث علم العمل به متواتر.
ومن أصلنا: أن المتواتر بالعمل هو أرفع خبر يعمل، إذ المتواتر المتعارف قرناً بقرنٍ مما عمل الناس به لم يعملوا به، إلا لظهوره، وظهوره يغني الناس عن روايته، لما علموا خلوة عن الخفاء.
ولهذا يقول في الخبر جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع" ، فترد به الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أخبار الآحاد. هو من حيث الرواية من الآحاد، ولكنه من حيث تواتر الناس للعمل به صار بحيث يوجب علم العمل. فما لم يجز أن يجتمع الأمة على شيء علموا كله من كتاب أو سنة غير ما ورد، فيكونوا قد اجتمعوا على تضييع كتاب أو سنة، فكذا هذا، لا يجوز أن يجتمع الناس على ترك الوصية للوارث، وثم كتاب نسخه أو سنة أخرى يلزم العمل به؛ فلهذا قضينا بنسخه. والله أعلم.
وقوله: { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قيل فيه بوجهين:
يحتمل: { فَمَن بَدَّلَهُ } هذه الوصاية المكتوبة للوالدين، إن كان هذا أراد بقوله: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } [البقرة: 180] الآية، فإنما إثمه عليه.
ويحتمل: { فَمَن بَدَّلَهُ } الوصية { بَعْدَ مَا سَمِعَهُ } من الموصي { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ }.
ثم يحتمل بعد هذا وجهين:
يحتمل: أنه أراد تبديل الوصي بعد موت الموصي.
ويحتمل: تبديل من حضر الوصي ذلك الوقت من الشهود وغيره.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ } أي: سميع لمقالته ووصايته. و{ عَلِيمٌ } بجوره وظلمه. أو { عَلِيمٌ } بتبديله. والله أعلم.
وقوله: { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
قيل: فيه بوجهين:
يحتمل: { فَمَنْ خَافَ } أي: علم من الموصي ظلمًا وجورًا على الورثة بالزيادة على الثلث، { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تبديله ومنعه ورده إلى الثلث وقت وصاية الموصي.
ويحتمل: { فَمَنْ خَافَ }، أي: علم من الموصي خطأ وجورًا بعد وفاته بالوصية، { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تبديله ورده إلى ما يجوز من ذلك ويصح، وهو الواجب على الأوصياء أن يعملوا بما يجوز في الحكم، وإن كان الموصي أوصى بخلاف ما يجيزه الحكم ويوجبه.
قال الشيخ -رحمه الله -: وكان صرف (الخوف) إلى (العلم) أولى؛ إذ هو تبديل الوصية وقد نهى عنه وأذن به للجور، فإذا لم يعلم فهو تبديل بلا عذر، وقد يخفف للخوف حق العلم إذا غلب الوجه فيه، كما أن أذن للإكراه إظهار الكفر، وذلك في حقيقته خوف عما في التحقيق على العلم بغلبته وجه الوفاء في ذلك.
وقوله: { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ }، يعني بين الورثة بعد موت الموصي، ورد ما زاد على الثلث بين الورثة على قدر أنصبائهم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، لجور الموصي وظلمه إذا بدل الوصي ذلك ورده إلى الحق.
ويحتمل: { غَفُورٌ رَّحِيمٌ }، لمن رد على الموصي جنفه وميله في حال وصايته. والله أعلم.
والأصل في أمر الوصاية للوارث، أن آيات المواريث لم تكن نزلت في أول ما بهم حاجة إلى معرفة ذلك، فيجوز أن يكون في الابتداء كانت الوصايا بالحق الذي اليوم هو ميراث، يبين ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنتي سعد، الذي قتل بأحد، وقد كان استولى عمهما على ميراثه، فسألت أمهما عن ذلك، فقال: لم ينزل فيه شيء. ثم دعاهما، وأعطاهما ما بين الله في كتابه في قوله:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ.. } الآية [النساء: 11].
وكذلك كان للنساء الحول في ترك الأزواج وصية لهن؛ فعلى ذلك كان الأمر بالوصية، فقال الله عز وجل:
{ { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ } [النساء: 11] كالمبين بما كان قد أوجب النبيين على الميت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" ، ومما يبين ذلك أنه معلوم أن تكون الوصية للوارث ليست تثبت فيما هي له؛ لأنه اليوم فيكون حصول الوصية بنصيب بعض الورثة على ذلك الوجه لا يجوز وصية الميت لأحد، فكذلك للورثة. وهذا يبين أنها كانت في وقت لم يبين الميراث، فلا يكون الوصية لمن تثبت له وصية بنصيب غيره في التحقيق، فكان يجوز، ثم بطل ببيان السنة، إذ ليس في متلو القرآن حقيقة ذلك، وإنما يكون بحق الانتزاع منه والنسخ، ومعناه بالانتزاع أبعد عن الاحتمال منه بالسنة. ولا قوة إلا بالله.
ثم حق التواتر عندنا يقع بظهور العمل بالشيء على غير المنع منهم، والتكثير عليهم في الفعل، وفي هذا وجود ذلك من طريق الفعل.
ثم القول أيضًا من الأئمة بالفتوى بلا تنازع ظهر فيهم ما قد ذكر الله في المواريث:
{ { فَإِن كَانُوۤاْ أَكْثَرَ مِن ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي ٱلثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ ٱللَّهِ } [النساء: 12]، وتخصيص الورثة قصد مضارة بغيره، واستعمال الرأي فيما قد تولى قسمه على غير الذي قسم. والله أعلم.