التفاسير

< >
عرض

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ
١٧
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ
١٨
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.
اختلف فيه:
قيل: إنها نزلت في المنافقين؛ لأَنها على أَثر ذكر المنافقين، وهو قوله:
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ... } [البقرة: 14].
وقيل: إنها نزلت في اليهود؛ لأنه سبق ذكر اليهود، وهو قوله:
{ ...ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ... } [البقرة: 6].
ويحتمل: نزولها في الفريقين جميعاً.
ورُوي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إن هذا من المكتوم" فلا يحتمل ما قال؛ لأَنه مَثَلٌ ضربه الله، والأَمثال إنما تضرب لتُفْهم وتقرِّب إلى الفهم ما بعُد منه؛ فلو حمل على ما قال لم يفهم مراده وما قرَّب إلى الفهم شيئاً، إلا أن يريد من المكتوم: أنه لم يعلم فيمن نزل، فهو محتمل، والله أعلم.
وقوله عز وجل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً... } الآية.
يحتمل: أن يكون الإضافة إلى من ذكر من المنافقين بقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ... } الآية [البقرة: 8]، وقوله: { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا... } الآية [البقرة: 14، 76]. وذلك يخرج على وجوه:
أَحدها: أَنهم قصدوا قصد المخادعة بأَولياءِ الله والاستهزاءِ بهم؛ ففضحهم الله بذلك في الدنيا والآخرة.
فأَما في الدنيا فبما هتك سترهم، وأطْلَعَ على ذلك أَولياءَه؛ فعادت إليهم المخادعة، وعوقبوا بما أطلع على ضميرهم، وبما أَرادوا ذلك الأَمن، فأَعقبهم الله خوفاً دائماً كما وصفهم الله
{ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ... } الآية [النساء: 77]. وقال: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون: 4]. وقال: { رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [محمد: 20]، وقال: { فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ... } الآية [الأحزاب: 19]، وقال: { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ... } الآية [التوبة: 64].
أو أَن يكونوا طلبوا - بإظهار الموافقة في الدين - الشرف فيهم والعز، وكذلك عند الكفرة مما أظهروا أَنهم يخادعون بذلك المؤمنين، ويستهزئون بهم؛ فعلموا أَنهم كذلك يظهرون للمؤمنين حالهم معهم، فَطُرِدوا من بينهم فقال الله:
{ مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } [المجادلة:14]، وقال: { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ... } الآية [النساء: 143]، فزال عنهم ما التمسوا من الشرف والعز، وأَبدل لهم به الهوان والذل.
فمثلهم في ذلك مثلُ مستوقِد نارٍ ليستضيء بضوئها، وينتفع بِحرِّها، فأَذهب الله ضوءه حتى ذهب ما كان يأْمل من الاستنارة بها والانتفاع، وأعقبه الله تعالى خوف الاحتراق لو دنا منها، وذهب عنه ما طلب بذلكَ - من شرف الوقود في الأَيام الشاتية، أو ما يصلح بها - من الأَغذية بذهاب البصر.
فيكون ذلك معنى قوله:
{ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، و { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } إذ عوقبوا بالخوف بما قصدوا به الأمنَ، والذلِّ بما طلبوا به العزَّ، وكذلك مستوقد النار الذاهب نوره، والله أعلم.
وعلى ذلك قوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ... } أي: اختاروا الضلالة لما رجعوا إلى شياطينهم بالهدى الذي قد أَظهروه عند المؤمنين.
فيكون تحقيق استهزاءِ الله بهم، ومخادعته إياهم فعل أَوليائه بهم بما أخبروا من سرائِرهم، وبما حطوا أَقدارهم، وذلوا في أَعينهم، فأُضيف ذلك إلى الله؛ إذ به فعلوا، كما أُضيفت مخادعتُهم المؤمنين إليه؛ إذ عن دينه خادعوهم. والله أعلم.
وعلى هذا التأْويل أَمكن أَن يخرج قول من زعم: أَن الآية نزلت في الكافرين، أَنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجدوا نعته في التوراة والإنجيل، أنه
{ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ... } الآية [الأعراف: 157]، وقوله: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } [الفتح: 29] إلى آخر السورة، وقال عز وجل: { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146، الأنعام: 20]، وقوله: { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89].
كانوا كمستوقد النار، أي: طالب الوقود ليستضيء به، فلما ظفر به أَذهب الله نوره بعد معرفتهم بمنفعة نور النار، فلم ينتفع به.
فكذلك لما كفروا عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم حسداً من أَنفسهم وبغياً؛ إذ كان من غيرهم؛ أو خشية منهم على ملكهم ومأْكلتهم بعد العلم منهم بعظم المنفعة فيه، ولا قوة إلا بالله.
وأما في الآخرة أنهم قصدوا مخادعة المؤمنين، وموالاتهم في الظاهر، ومشاركتهم إياهم في المنافع نحو المغانم والتوارث والتناكح، وخالفوهم في الباطن.
فكذلك الله أَشركهم في المنافع الظاهرة الحاضرة في الدنيا، وخالفهم بمنافع دينه في الباطن الغائب وهي الآخرة؛ أراهم المشاركة مع المؤمنين في الدنيا، وصرفها عنهم في الآخرة.
فكما أرَوْهم الموافقةَ في الظاهر مع المخالفة في الباطن، فكذلك مستوقد النار أظهر من نفسه الرغبة في ضوئها بالإيقاد، وقد أَذهب الله ضوء بصره؛ فذهب عنه مَنفعته عند ظنه أَنه يصل إليها، كالمنافقين في الآخرة، إذ ظنوا في الدنيا أنهم شركاؤهم في الآخرة لو كانت؛ ولذلك قالوا:
{ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد: 13]، وقوله: { أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ... } الآية [النساء: 141، الحديد: 14] فذلك وجه الاستهزاءِ بهم، والمخادعة أَنه أَشركهم في أَحكام الدنيا وخالفهم في أَحكام الآخرة.
وعلى ذلك اشتراء الضلالة بالهدى، على معنى اختيارهم ما فيه الهلاك على ما فيه نجاتهم.
وعلى ذلك يخرج تأْويل من صرف إلى أَهل الكتاب؛ لأَنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ آمنوا بكتبهم وقد كان فيها نعته الشريف، فلما وصلوا إلى منافع الإيمان بالبعث إليهم، وشاهدوا كفروا به؛ فعوقبوا بحرمان منافع كتبهم، وإيمانهم عند معاينة الجزاء كما ردّوا إيمانهم به عند المشاهدة، والله أعلم.
وروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ضم تأْويل هذه الآية والتي تتلوها من قوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 19] إلى قوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [الحج: 11] وذلك - والله أعلم - أنهم قوم لا يعرفون الله حق المعرفة؛ فيعبدونه بحق الربوبية له قبلهم، ولا يؤمنون بالآخرة؛ فيكون عملهم للعواقب، ولا يعرفون غير الدنيا ومنافعها، فجعلوا دينهم وعبادتهم ثمناً لها.
فإذا رأوا في دين الإسلام الغنائم والسلوة، رأَوا تجارتهم مربحة فطمأَنوا بها، واجتهدوا بالسعي فيها.
وإذا أَصابتهم الشدة والبلايا رأَوا تجارتهم مخسرة فصرفوا إلى غير ذلك الدين؛ فمثلهم مثل المستوقد ناراً؛ إنه يجتهد في الإيقاد ما دام يطمع في نور النار، ومنافع حرها لمصالح الأَطعمة، فإذا ذهب نور بصره أبغض النار بما يخشى من الاحتراق بالدنو منها، وبما يذهب من منافع خفية إن لم يكن كاستوقد، كالمنافق فيما استقبله المكروه في الإسلام تمنى أن لم يكن أَسلم قط.
وذلك قوله:
{ وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } [الأحزاب: 20].
وقوله:
{ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَٰهُنَا } [آل عمران: 154].
وقوله:
{ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } [التوبة: 50].
وقوله:
{ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } [النساء: 72].
وكذلك البرق الذي يضيء يمشي المرء في ضوئه، وكذلك المنافق، إذا رأَى خيراً فى الإسلام مشى إليه، وإذا أظلم عليه قام متحيراً حزيناً؛ أَلا يكون اختار السلوك، والله الموفق.
وقال أَبو بكر الأصمُّ: مَثَلُ من يظهر الإيمان فيما يتزين بنوره في الناس، مثل مستوقد النار فيما يستضيء حول النار بنورها، ثم يذهب الله نوره في الآخرة كما أَذهب هو في السر، وكذلك أَذهب الله نور المستوقد؛ فيذهب به التزين بالنور حول النار.
قال: وقيل: ذا لعنٌ.
كما يقال: أَذهب الله نوره، أي: الذي كان يظهره؛ فيبقى المنافق في ظلمات الآخرة، والمستوقد في ظلمات العمى والليل.
ثم قال: جعل الدعاء إلى الإسلام كالصيّب، وما فيه من الجهاد كظلمة الليل، وما فيه من الغنيمة كالبرق، وجعل أَصابعهم في الآذان من سماع ما في الإسلام من الشدائد نحو جعل ذلك من الصواعق { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ }.
أي: ما في الإسلام من الغنيمة يدعوهم إليه.
وإذا أَظلم عليهم بالشدائد قاموا وصدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شاءَ الله لذهب بما ذكر، أَي: أَصمهم وأَعماهم.
وروى عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أَن ضوء البرق والنار ليسا بدائمين"؛ فشبه به إيمان المنافق أَنه عن سريع يزول.
وقال القتبي: كان المنافق في ظلمة الكفر فاهتدى بما أعطى من النور، كمستوقد النار بنوره في ظلمة الليل.
وكذلك السالك في ظلمة الليل، فلما ذهب نوره - أَو سكن لمعان البرق - رجع إلى ما فيه من الظلمة.
والأَصل في هذا الباب: أَن الله تعالى خلق هذه الدار لمحنة أَهلها، وجعل لهم داراً يجزيهم فيها، مما لولا هي لكان يكون خلق هذه الدار بما فيها عبثاً؛ إذ يكون خلق الخلق للفناءِ بلا عواقب لهم، وذلك عبث في العقول؛ لأن كل شارع - فيما لا عاقبة له - عابث، وفيما لا يُريد معنى يكون في العقل هازلٌ؛ ولذلك قال:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115].
فإذا كان كذلك صارت هذه الدار دليل الأخرى؛ فعلى ذلك ضرب للأخرى مثلاً بالمعروف من هذه؛ إذ بهذه عرفت تلك؛ ولهذا خلق الله الممتَحنين بحيث يألمون ويتلذذون؛ ليعرفوا قدر الآلام التي بها أوعدوا، واللذات التي فيها رغبوا.
فعلى ذلك ضرب الله مثل من عمى عن الآخرة، وصم عن سماع ما يرغب فيها، أو عمى عن أَمر الله ونَهْيه، أو أُلحق بالأَعمى، والأَصم، والميت ونحو ذلك؛ لذهاب منافع البصر والسمع والحياة؛ إذ هي مخلوقة ليعرف بها ما غاب عنها بالتأَمل والتدبر.
فإذا غفل عن ذلك سمى بالذي ذكرنا. وبينا أَنه لولا الآخرة ودار الجزاءِ، لم يكن لخلق شيء من ذلك حكمة نعقلها نحن.
فعلى ذلك ضرب المثل لذهاب نور القلب - الذي به يبصر العواقب وينتفع بها - بذهاب نور البصر، في زوال منافع الدنيا مما يتصل بنوره، وكذلك أَمر السمع وغيره.
فكان على ذلك أَمكن إخراج المثلين جميعاً على الكفرة والمنافقين.
أَما المنافق فإذا ذهب نور حقيقته عنه - وهو نور البصر - لم ينتفع بنور النار على قيام النار بنورها لكل ذي بصر، وكذلك سائر منافع النار؛ فمثله إذا ذهب عنه نور بصر القلب وحياته لم ينتفع بنور الآخرة وجزائِها.
وكذلك الذي ذهب عنه ضوء البرق يبقى متحيراً؛ إذ به يبصر الطريق كمن يذهب عنه بصر القلب؛ إذ به يبصر عواقب الأَشياءِ.
بل الذي قصد السلوك بالبروق، والاستضاءَة بنور النار، إذا ذهب كان أَعظمَ حسرة وأَشد خوفاً من النارِ، وشدةِ المطرِ، وخبثِ الطريق من الذي لم يعرف - في الابتداءِ - نفع النار أَو البرق، ويكره المطر على شدة رغبته فيه، والنار بما ذهب منه.
وكذلك المنافق في الآخرة إن لم يكن منه ما أظهر إذ به يُرد إلى درك الأَسفل، ولا قوة إلا بالله.
وكذلك الكافر لم يبصر - بما أَعطاه من البصر - عوقب البصر الظاهر، ولا يسمع - بما أَنعم عليه من السمع - عواقب السمع؛ إذ حق ذلك أن يؤدي ذلك ما أَدركه إلى العقل ليعتبر به أَنه لم يخلق شيء من ذلك بالاستحقاق، ولا يحتمل عقله الإحاطة بكنه ما فيه من الحكمة، فيعلم عظم نعمة الله وخروج مثله عن العبث، فيقوم بأداءِ شكره؛ وبذلك يصير به إلى الجزاءِ في العواقب، ولا قوة إلا بالله.
وقوله عز وجل: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }.
يحتمل وجهين:
أَحدهما: صم؛ لأَنه ختم على آذانهم، وعلى سمعهم، وعلى قلوبهم؛ فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.
ويحتمل: أَنهم صم بكم عمي؛ لما لم ينتفعوا بأسماعهم، وأَبصارهم، وقلوبهم.
ثم اختلف في جواز إضافة لفظ "الاستهزاءِ" إلى الله تعالى:
فأجازه قوم، وإن كان ذلك قبيحاً من الخلق؛ لما قبح منهم بما لا أحد يستهزئ بأَحدٍ - إما لجهله، أَو لقبح في الخلقة، أَو لزيادة في الخلق - إلا المستهزئ نحو هذه قد يحتمل ذلك لولا إنعام الله عليه الذي قد أغفل عنه، أَو لدناءة في الخلق باشتغاله بما ذكر، مع ما لعل الإغفال من هذ أَوحش، وأَقبح من حال المستهزأ به.
ولذلك قال عز وجل:
{ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ... } الآية [الحجرات: 11].
وذلك نحو التكبر: أنه قبيح من الخلق، بما لهم أَشكال في الحدث، وآثار الصنعة، واحتمال كل منهم بما احتمل غيره.
وجائِز إضافته إلى الله تعالى، لتعاليه عن الأَشباه والأَشكال، وإحالة احتمال ما احتمل غيره، وبه يقول حسين النجار.
وأبى قوم ذلك إلا على أَثر أَحوال تصرف فهم السامع إلى معنى الاستهزاءِ، نحو أن يذكر على أثر فعل له جزاء؛ فيفهم منه جزاءُ الاستهزاءِ كذكر السيئة في الجزاء، والمكر ونحو ذلك.
ثم يخرج ما نحن فيه على أوجه:
أَحدها: ما بينا.
والثاني: ما ينسب إليه فعل المأْمور، نحو قول المؤمنين للمنافقين في الآخرة:
{ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ } [الحديد: 13] وقول أَهل الجنة، ودعائهم أهل النار بالخروج، لو ثبت ما ذكره الكلبي، وقول الملائِكة: { فَٱدْعُواْ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } [غافر: 50] وغير ذلك.
وقوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ * يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 19-20].
ثم ما ذكر من "الظلمات" يخرج على وجوه ثلاثة:
أَحدها: ظلمات كفرهم بقلوبهم؛ إذ أظهروا الإيمان أَولاً.
والثاني: المتشابه في القرآن، وهو الذي تعلق به كثير من المشركين حتى نزول قوله:
{ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ... } [آل عمران: 7].
والثالث: ما في الإسلام من الشدائد، والإفزاع من الجهاد، والحدود وغير ذلك.
وأَمكن صرف الأَول، والآخر إلى الفريقين: الكافر، والمنافق، وصرف تأْويل المتشابه إلى الكافر.
على أنا بيَّنا أَن لكلٍّ من ذلك حَظًّا، ويدل آخر الآية - وهو قوله: { وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } - على أن المثل لهم، إلا أن المنافق شريكهم في الكفر، والله الموفق.
وجائِز أن يكون المثل المضروب بالآية إنما هو للقوم الذين شهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا قبل بعثه صنفين:
صنفٌ ينتحل الكتاب الذي هو عندهم مما جاءَ به الرسل، [لكن أَئمتهم] قد غيروا ما في كتبهم من دين الله وأَحكامه حتى عطلوا ذلك، وأَبدعوا غير الذي جاءَت به الرسل من الدين والأَحكام.
بَيَّن ذلك قولُه:
{ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ... } الآية [آل عمران: 105].
وقوله:
{ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } [المائدة: 15].
وقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ... } [الأنعام: 159].
ومنهم من أبدع الكتاب ونسب إليهم؛ كقوله:
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ... } الآية [آل عمران: 78].
تبين ما ظهر من التفرق فيهم، ومن القول في أنبيائهم، وفي الله سبحانه، ومعلوم أن دين الرسل واحد غير مختلف، وبما كان من الفترة اندرست الكتب، وذهبت الرسوم؛ فصاروا في ظلمة الضلالة، وحيرة الزيغ، وتاهوا في سبيل الشيطان، وانقطع من بين أظهرهم الأَئمة الذين يوثق بهم في الدين، بما ليس لأَحد برهان يشهد له بالتمسك بسبيل الأنبياءِ، والاعتصام بكتبهم؛ إِذ كلهم يدعي ذلك - وقد ظهر فيهم القول المختلف والمتناقض الذي لا تحتمله الحكمة، وَلا يصبر عليه العقل.
وصنف: لا ينتحل الكتاب، ولا يؤمن بنبي من الأَنبياءِ، بل يعبدون الأَوثان والنيران والأحجار، وما يهوون مما لا يملك الضرر ولا النفع، ليس لهم شرع، بل هم حيارى، لا يعرفون معبوداً، ولا يبصرون طريقاً، وليس فيهم مَنْ إذا فزعوا إليه دلهم على المحجة، وأطلعهم على الحق، بل هم في الضلال تائهون، وفي الظلمات متحيرون.
فأَحوج الفريقين جميعاً ما حل بهم من الحيرة والتِّيه، إلى من يشفيهم من داءِ الضلالة بنور الهدى، ومن ظلمة الاختلاف بضياءِ الائتِلاف، ويخرجهم من سبيل الشيطان إلى سبيل الله، ويَدُلُّهم على معرفة المعبود الحق لئلا يتخذوا من دونه أَرباباً.
فبعث إليهم - عند شدة حاجتهم - رسولاً، وأكرمهم بما أَراهم من الآيات التي يعلمهم بها أَنه أنعم بها عليهم؛ ليستنقذهم من الضلالة إن هم أَطاعوه، وشكروا نعمة الله.
فكانوا كقوم بُلُوا بظلماتِ الليل والسحاب، فتحيروا فيها بما حالت الظلمة بينهم وبين حاجاتهم، وتعذر عليهم الوجه فى وضع أَقدامهم، فتاهوا فدفعهم التِّيهُ إلى استيقاد النار؛ ليبلغوا حوائجهم، ويأْمنوا العَطَبَ في وضع الأَقدام.
وكقوم بُلُوا في شدة الجوع والعطش لضيق الزمان وجَدْبِهِ، فاستغاثوا بمن يملك كشف ذلك عنهم فأَغاثهم بالمطر.
ثم منهم من عرف نعمة من أَنعم عليهم بالوقود وأَغاثهم بالمطر، فتلقوا نعمته بالشكر فنجوا بذلك فما خشوا من الهلاك، ووصلوا إلى حوائِجهم بالنار والمطر.
وذلك مثل من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم وعرف نعم الله فشكره.
ومنهم من تلقى نور النار بالكفران والجهل بالمنعم به عليه، ونسي ما كان عليه، وهو قوله:
{ فَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ضُرٌّ } [الزمر: 8، 49] آيات فيها ذكر ما بَينت، وقوله: { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ... } الآية [الإسراء: 67]، فأَذهب الله نورَهُ فلا ينتفع بنور النار، ولا وَصل إلى حاجته التي بها يقضى.
وذلك مثل الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم: أنهم لم ينتفعوا به، ولا قضوا حاجاتهم، بل زادهم ذلك ظلمةً وحيرة، كمستوقد النار إذا ذهب بصرهُ.
وكذلك قوم بُلوا بالسلوك في الطريق عند شدة الظلمة، ولم يتلقوا النعمة بالشكر من الوجه الذي جُعل لهم لوضع أَقدامهم بنور البرق فأَذهب الله نوره، وسَكَنَ لمعانُ البرق؛ فعاد الغياث له هلاكاً، والمطر - الذي وجهه - عليه بلاء.
فمثله من كابر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض على الاستماع إليه، ولا قوة إلا بالله.