التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٦٥
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢٦٦
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }.
المن والأذى: ما ذكرنا.
ثم جهة البطلان - والله أعلم - أن الله عز وجل وعد لمن تصدق الثواب عليها، بقوله:
{ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245]، وقال: { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } [المزمل: 20] وقال في آية أخرى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ... } الآية [التوبة: 111]. وإن كانت تلك الأموال في الحقيقة له أعطاهم الثواب على ذلك، فأخبر أن من أعطى آخر شيئاً ببدل لا يمن عليه، كالمبادلات التي تجري بين الناس، ألا يكون لبعض على بعض جهة المنّ، إذا أخذ بدل ما أعطاه، وأن يقال: إن الأموال كلها لله تعالى، فإنما أعطى ماله، كل من أعطى ماله آخر لا يستوجب ذلك حمداً ولا مَنّاً.
ثم اختلف في قوله تعالى: { كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ }:
قال بعضهم: هم المنافقون، كانوا ينفقون أموالهم رياء. دليله قوله تعالى: { وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }، شبه الصدقة التي فيها (مَنٌّ) و(أذىً) بالصدقة التي فيها رياء. وذلك - والله أعلم - أن الصدقة التي فيها (من) و(أذى) لم يبتغ بها وجه الله، فكان كالصدقة التي ينفقها للزيادة لا يبتغي بها وجه الله تعالى [وقال آخرون: كل صدقة فيها رياء فلذلك، كافراً كان منفقها أو مسلماً؛ لأنها لم يُبتغَ فيها وجه الله تعالى] والدار الآخرة.
ثم ضرب المثل للصدقة المبتغي بها الرياء، والصدقة التي فيها المن والأذى بالصفوان الذي عليه التراب: وهو الحجر الأملس، فقال:
{ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ }.
قيل: (الوابل) هو المطر الشديد عظيم القدر.
وفي ضرب الأمثال تعريف ما غاب عن الأبصار بما هو محسوس؛ وذلك أن الصفوان الذي به ضرب المثل، والتراب محسوس، ومن التراب جعل الأغذية للخلق والدواب. ثم الثواب الذي وعد للصدقة ليس بمحسوس، بل هو غائب، فعرف الغائب بالمحسوس. فقال: لما كان التراب الذي به تكون الأغذية يذهب بالمطر الشديد حتى لا يبقى له أثر، فكذلك الثواب الذي يكون للصدقة يذهب ويتلاشى حتى لا يُظفر بها بالمن والأذى والرياء، كما أذهب المطر التراب الذي على الصفوان، فصار صلداً، لا شيء عليه من التراب.
وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.
قالت المعتزلة: لا يهدي القوم الكافرين بكفرهم الذي اختاروا.
وقلنا نحن: لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر، ويهديهم وقت اختيارهم الإيمان.
وفي قوله: { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى }، وجه آخر، هو أن يحتمل قوله: { مَّعْرُوفٌ }، هذه التسبيحات والثناء والحمد، { وَمَغْفِرَةٌ }، ستر ما ارتكب من المأثم. وقوله: { خَيْرٌ }، أي أحب على البذل من صدقة يتبعها أذى. والله أعلم.
وقوله: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
في الأمثال التي ضربها الله تعالى وذكرها في القرآن وجوه:
أحدها: جواز قياس ما غاب من الحكم عن المنصوص بالمنصوص إذا جمعهما معنى واحد.
والثاني: أن علوم المحسوسات والمشاهدات هي علوم الحقائق، وهي الأصول التي بها يستدل ويوصل إلى معرفة الغائب.
والثالث: فيها إثبات رسالة محمد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، وذلك أن العرب كانت لا تضرب الأمثال، ولا كانت تعرفها في أمر التوحيد وتعريف ما غاب عن حواسهم من أمر القيامة ونحو ذلك. ثم بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وذكر فيه الأمثال؛ ليذكرهم تلك الأمثال ليعلموا أنه إنما عرفها بالله عز وجل، لا أنه أنشأ هذا القرآن من تلقاء نفسه. وذلك من آيات نبوته ورسالته. وعلى ذلك جعل عدم الكتابة وإنشاء الشعر من آيات نبوته ورسالته؛ لأن من عادة العرب إنشاء الشعر والكتابة، ويفضلون أربابها على غيرهم؛ لئلا يعرف هو بها، ويقولون: إنه أخذ من الكتب، أو اختلق من نفسه، كقوله تعالى:
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48].
والرابع: فيها دلالة أن الله - جل وعلا - خالق الدنيا وما فيها من المحاسن والخبائث، والأعالي والخسائس، حيث ضرب مثل الرفيع وبالرفيع والخسيس بالخسيس؛ فدل أن خالق هذه الأشياء كلها هو الله تعالى، لا شريك له ولا شبيه.
ثم شبه الصدقة التي هي لله - عز وجل - مرة بالربوة من الأرض: وهي المرتفعة منها، ومرة بالحبة التي تنبت كذا كذا سنبلة، وفي كل سنبلة كذا كذا حبة، ومرة بالأضعاف المضاعفة؛ كقوله:
{ فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245]. فهو - والله أعلم - لما علم عز وجل رغبة الناس مرة في العدد في الدنيا، ومرة في البساتين المرتفعة أرضها وتربتها ليشرفوا على غيرهم من الخلائق والبقاع، ومرة في الكثير من الأشياء والعظيم منها رغبهم عز وجل في الصدقة بما ذكرنا من الأشياء لعلمه برغبتهم فيها، ليرغبوا في ذلك. والله أعلم.
وعلى ذلك حرم الله تعالى الصدقات على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يرغب الناس في الصدقة؛ لئلا يظنوا فيه ظن السوء ويقولون: إنه إنما يرغبهم فيها لينتفع هو بها.
وقوله تعالى: { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } اخلتف فيه:
قيل: { وَتَثْبِيتاً }: تصديقا، كقوله تعالى:
{ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } [الليل: 5-7].
وقيل: { وَتَثْبِيتاً }، أي: تيقينا بالإسلام.
وقيل: يثبتون في مواضع الصدقة.
وقيل: { وَتَثْبِيتاً } في الصدقة، إذا كانت لله أمضى وتصدق بها، وإن خالطه شيء أمسك. والله أعلم.
وقوله تعالى: { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ }.
قيل: الربوة: المرتفع من الأرض.
وقيل: الربوة: الظاهر المستوي من المكان.
وقوله تعالى: { أَصَابَهَا وَابِلٌ }.
والوابل: قد ذكرنا أنه المطر الشديد العظيم القطر.
وقوله تعالى: { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ }، يعني الحجة أضعفت في ثمرها في الحمل ضعفين حين أصابها وابل. كذلك الذي ينفق ماله لله في غير منه يمن بها يضاعف نفقتها، كثرت النفقة أو قلت.
وقيل: يضاعف الله للمنفق الأجر مرتين.
وقوله تعالى: { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ }.
والطل، هو المطر الضعيف.
وقيل: هو الطش من المطر.
وقيل: هو الرذاذ من المطر مثل الندى، لا تزال الحبة خضراء دائماً ثمرها، قل أو كثر.
وقوله: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }.
ليس لهذا الخطاب جواب؛ لأن جوابه أن يقول: يود، أو لا يود. لكن الخطاب من الله تعالى يخرج على وجوه ثلاثة:
خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع.
وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكر والتدبر، وهو كقوله:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وكقوله عز وجل: { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21]، و { يَعْقِلُونَ } [الحشر: 14].
وخطاب لا يفهم مراده إلا بالسؤال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من له علم في ذلك؛ كقوله تعالى:
{ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59]، وكقوله تعالى: { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43].
فإذا كان ما ذكرنا، فيحتمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث عنه والتفحص.
ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق؛ وذلك أن المنافق يرى من نفسه الموافقة لأهل الإسلام في الظاهر، وهو مخالف لهم في السر، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب، كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية: أن صاحبها يغرس فيها الغرس، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته؛ رجاء أن يصل إلى الانتفاع بها في وقت الحاجة والضعف، فإذا بلغ ذلك واحتاج - حيل بينه وبين الانتفاع فيها. فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع في الدنيا وسعة لها، إذا بلغ إلى وقت الحاجة حرم ذلك. وكذلك هذا في الكافر؛ لأنه رأى لنفسه النفع بعمله لوقت تأمله كصاحب الضيعة، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لا عتراض ما اعترض من الآفة، وهو كقوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور: 39]؛ لأن الكافر بما يدين من الدين إنما يدين لنفع يتأمله في الدنيا، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يتأمله ويطمع في الآخرة. فرجاء الكافر في غير موضعه؛ لذلك كان ما ذكر. والله أعلم.
ثم الأمثال التي ضربت ينتفع بها المؤمنون؛ لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيها، لم ينظروا إلى أعينها. وأما الكفار إنما ينظرون إلى أعين الأمثال، لا إلى ما فيها، فاستحقروها واستبعدت عقولهم ذلك؛ لذلك قال الله - عز وجل -:
{ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24]، و { يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164].
ووجه ضرب هذا المثل: هو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه حين كبرت سنه وضعفت قوته، ولا حيلة له يومئذ.
وقوله تعالى: { إِعْصَارٌ }.
قال ابن عباس: الإعصار: ريح فيها سموم.
وقيل: الإعصار: ريح فيها نار تحرق الأشجار.
وقيل: هي الريح تسطع إلى السماء، وهي أشد.
قال الشيخ -رحمه الله تعالى - في قوله: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ... } الآية: فمعناه - والله أعلم - أن يكون ألا يود أحد أن تكون له جنة ينال منافعها في وقت قوته وغناه بقوته عنها وبغيرها من وجوه المعاش، ثم يحرم نفعها لوقت الحاجة إليها بضعف بدنه وارتكاب مؤن الذرية، فكذلك لا ترضوا من أنفسكم في وقت قوتها وغناها الغفلة عنها لوقت حاجتها إلى الأعمال والاضطرار إلى ثوابها. والله أعلم.
وأن يكون المعنى من ذلك أي: لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا، وبما تنالون من النافع بالذي أظهرتم من موافقة المؤمنين، كاغترار من ذكرت بجنسه في خاص ما عليه حاله إلى أن صار إلى ما أراه الله من عاقبته أنه يود عنه نهاية ذلك، أن لم يكن منه الاغترار في ذلك، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه ذلك بتلك الحال؛ فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق.
ويحتمل: أن يكون ذلك مثلاً لمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ممن يؤمن بالبعث، أن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز، كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة؛ فكذا ما ينبغي لهم إذ بين لهم عواقب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤثروا الذي نالوا بعد علمهم بشدة تلك العاقبة. والله أعلم.
والمثل خرج على غير ذلك الجواب فيه؛ لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث مبيناً أو بما في الحال التي لها نزول الآية دليل التعريف، أو بما أراد الله امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي عقل فضله، وليكرم به أهل التدبر في أياته في صرف وجوه من دونهم إليهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم. والله أعلم.
وجملة ذلك: أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب، وما إليه مرجع الفاعل مقصود في الابتداء، فبين لمن غفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته لما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم يكن له تلك، ليكون سروره بما يحمد عاقبته. فعلى هذا الأمر: الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار إليها صاحبها. والله الموفق.