التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٦٣
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٦٤
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٦٦
-البقرة

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ }.
قد ذكرنا فيما تقدم: أَن ميثاق الله، وعهده على وجهين: عهد خلقه وفطرة، وعهد رسالة ونبوةٍ.
وقوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } في التوراة أَن يعملوا بما فيها، فنقضوا ذلك العهد لما رأَوا فيها الحدود، والأَحكام، والشرائع كرهوا؛ فرفع الله الجبل فوقهم، فقبلوا ذلك.
ويحتمل ما ذكرنا من عهد خلقة وفطرة فنقضوا ذلك.
وقوله: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ }.
قيل: خذوا التوراة بالجد والمواظبة.
وقيل: "بقوة" يعني: بالطاعة له والخضوع.
ثم احتج بعض المعتزلة بهذه الآية على تقدم القدرة الفعلَ؛ لأَنه أمرهم - عز وجل - بالقبول له، والأَخذ والعمل بما فيها.
فلو لم يعطهم قوة الأَخذ والقبول له قبل الأَخذ له والفعل، لكان لا يأْمرهم بذلك؛ لأَنهم يقولون: لا قوة لنا على ذلك؛ فدل أَنه قد أعطاهم قبل ذلك، لكنه غلط عندنا؛ لأَنه لو كان أَعطاهم القوة قبل الفعل، ووقت الأَمر به، ثم تذهب عنهم تلك القوة وقت الفعل - لكان الفعل بلا قوة؛ إذ من قولهم: أن القوة لا تبقى وقتين؛ فدل: أَنها تحدث بحدوث الفعل، لا يتقدم ولا يتأَخر، ولكن يَكونان معاً.
ولأَنها سميت: قدرة الفعل، فلو كانت تتقدم الفعل، لم يكن لإضافة الفعل إليها معنى، والله أعلم.
والأَصل في ذلك: أَن الله - تعالى - قال: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ } ومعلوم أَن المرادَ من ذلك الأَخذُ بقوة الآخذ.
ثم فيه وجهان:
أَحدهما: أَن للأَخذ قوة غير التي للترك.
والثاني: أَنه ذكر الأَخذ بقوة، فإذا لم تكن معه لم يكن بها أَن يرى أَن الوقت إذا تباعد لم يحتمل بما تقدم من القوة أَوقاتاً؛ فمثله وقت واحد.
وقوله: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
قيل فيه بوجوه:
قيل: اذكروا، واحفظوا ما فيه من أَمره ونهيه، ولا تضيعوه؛ لعلكم تتقون المعاصي والمآثم.
ويحتمل: اذكروا ما فيه من التوحيد والإيمان؛ لعلكم تتقون الشرك والكفر.
ويحتمل: اذكروا ما فيه من الأَحكام والشرائع.
ويحتمل: الثواب والعقاب، والوعد والوعيد. وكله واحد.
وقوله: { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ }.
يعني: من بعد القبول.
دل هذا على: أَنهم كانوا قَبِلوا ذلك مرة، قبل أَن يأْتيهم موسى صلى الله عليه وسلم بها؛ فلما أَتاهم - ورأَوا التشديد، والمشقة - أَبوا قبولها، وتركوا العمل بما فيها من الأَحكام والشرائع؛ فخُوِّفُوا برفع الجبل فوقهم؛ فقبلوا ذلك، والله أعلم.
وقوله: { فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ }.
يحتمل وجوهاً:
قيل: فضل الله عليكم الإسلام ورحمته: القرآن.
وقيل: فضل الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، بعث إليكم رسولاً؛ ليجمعكم، ويؤلف بينكم، ويدعوكم إلى دين الله الحق، بعد ما كنتم في فترة من الرسل، وانقطاع من الدين والعمل.
ويحتمل: فضل الله عليكم؛ لما أَنجا آباءَكم من العذاب، ولم يرسل عليهم الجبل، وإلا ما توالدتم أَنتم.
وقيل: فضل الله عليكم؛ لما أَعطاهم التوراة، ووفقهم على قبولها، وإلا كنتم من الخاسرين. وبعضه قريب من بعض.
وقوله: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ }.
فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛
كأنه قال: ولقد علمتم أَن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الذين اعتدوا منكم في السبت، ولا كان علم ما فُعِل بهم، ثم علم ذلك؛ فإنما علم بالله - عز وجل - لأَنه لم يكن قرأَ كتابكم، ولا كان يختلف إلى أَحد ممن يعرف ذلك؛ فبالله - عزوجل - عرف ذلك، وبه علم؛ فدل: أَنه رسول الله إليكم.
ويحتمل قوله: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }.
أي: علمتم ما أَصاب أُولئك باعتدائهم يومَ السبت بالاصطياد، وكنتم تقولون:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18]. يعني: أَبْناءُ رسل الله وأَحباؤُه.
فلو كان كما تقولون، لم يكن ليجعلهم قردةً - وهي أَقبحُ خلق الله، وأَوخشُه - إذ مثل ذلك لا يُفعل بالأَحبَّاء ولا بالأَبناءِ.
أَو أَن يحمل على التحذير لهؤلاء؛ لئلا يُكذِّبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ولا يعصوه في أَمره، فيصيبكم ما أَصاب أولئك؛ بتكذيبهم موسى، وعصيانهم أَمرَه، والله أعلم.
ثم سبب تحريم الاصطياد في السبْت كان - والله أعلم - لما قيل: إنّ موسىَ صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل يوماً لله، خالصاً للطاعة له، والعبادةِ فيه - وهو يوم الجمعة - فخالفوا هم أَمره ونهيَه، وقالوا: نجعل ذلك اليوم السبت؛ لأَنه لم يُخلق لعمل. فحرم الاصطياد في ذلك اليوم لذلك وحولوا قردةً؛ عقوبة لهم لما نهوا عن الاصطياد في ذلك اليوم فاصطادوا.
وعلى ذلك تأْويل قوله:
{ إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } [النحل: 124] يعني: يوم الجمعة.
وقيل: { ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ }، يعني: في الله.
ثم اختلف فى قوله: { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }:
قال قوم: قوله: { كُونُواْ قِرَدَةً } من الأَصل؛ على ذهاب الإنسانية منهم.
وقيل: حَوَّل جَوْهَرهم إلى جوهر القردة، على إبقاءِ الإنسانية فيهم؛ من الفهم والعقل؛ لأَنه قيل: إن الذين كانوا يَنْهَوْنهم عن الاصطياد في ذلك اليوم دخلوا عليهم، فيقولون لهم: أَلم نَنْهكم عن ذلك، ونزجرْكم؟!
فَأَومئوا: أَي نعم. ودموعهم تفيض على خدودهم.
فلو كان التحويل على ذهاب جميع الإنسانيه منهم لكانوا لا يفهمون ذلك، ولا حزنوا على ما أَصابهم؛ لأَن كلَّ ذي جوهر راضٍ بجوهره الذي خلقه الله سبحانه يُسَرّ به.
ولأَن تحويله إياهم قردةً عقوبةً لتمردهم في التكذيب، وجرأَتهم على الله؛ ليعلموا ذلك، ويروا أَنفسهم أَقبحَ خلقِ الله وأَوخشَه.
وفيه نقض قول المعتزلة؛ لأَنهم يقولون: ليس في خلق الله قبيح.
فلو لم يكن في خلق الله قبيحٌ لم يكن لتحويل صورتهم من صورة الإنسان، إلى أَقبح صورةٍ معنىً؛ ليروا قبح أَنفسهم؛ عقوبةً لهم بما عَصَوْا أَمر الله، ودخلوا في نهيه.
وقوله: { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً }.
قيل: الهاء راجعة إلى القرية التي كانوا فيها.
وقوله: { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا }.
من أَهل القرية.
وقوله: { وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }.
حواليها.
وقيل: أَراد بالهاءِ: القرية، { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من القرى، { وَمَا خَلْفَهَا } من القرى.
وقيل: أَراد بالهاءِ: العقوبة والنكالَ، { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } يعني: لما مضى من الذنوب. { وَمَا خَلْفَهَا } يعني: ما بَقي، والله أَعلم.
وقوله: { خَاسِئِينَ }.
قيل: الخاسىء: الصاغرُ.
وقيل: الخاسىء: الذليلُ.
وقيل: البعيدُ. وكله يرجع إلى واحد، والله أعلم.