التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً
١٠٥
فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً
١٠٦
لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً
١٠٧
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً
١٠٨
يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً
١٠٩
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً
١١٠
وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً
١١١
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً
١١٢
-طه

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }.
يشبه أن يكون سؤالهم عن أحوال الجبال في ذلك اليوم لما بين أحوال الناس في الساعة بقوله:
{ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ... } الآية [الحج: 1-2]، وكقوله: { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ... } الآية [الحج: 2]، وصف لهم أحوال الخلق في ذلك اليوم، ولم يصف أحوال الجبال والأرض، فعند ذلك سألوه عن أحوال الجبال، فأمر رسوله أن يخبرهم بما ذكر أنه { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً }، وما ذكر أيضاً في آية أخرى: { هَبَآءً مَّنثُوراً } [الفرقان: 23]، { كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5]، { كَٱلْفَرَاشِ ٱلْمَبْثُوثِ } [القارعة: 4] ونحوه، فجائز أن يكون ذلك على اختلاف الأحوال، وقد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً }.
قال بعضهم: { قَاعاً صَفْصَفاً } أي: مستوية، والقاع والصفصف واحد.
وقال بعضهم: هي الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا زرع.
وقوله: { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } قيل: لا واديا ولا أمتا ولا رابية.
وقال بعضهم: العوج: الارتفاع، والأمت: الهبوط.
وقال بعضهم: العوج: أَحْناء الأودية، والأمت: التلال.
وقيل: لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً، والقاع الصفصف: هو تفسير { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً }، و { لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } تفسير قوله: { قَاعاً صَفْصَفاً }.
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ }: لا خلاف له، ليس كالداعي في الدنيا منهم من يطيعه ويجيبه ومنهم من لا يطيعه ولا يجيبه، فأخبر أنهم في الآخرة يجيبون الداعي في أي حال كانوا لا يخالفونه.
وقوله - عز وجل -: { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ }: لا تخشع، لكن تنخفض وتلين عند خوف أهلها، وترتفع عند الأمن.
أو أن يكون خشوع الأصوات كناية عنهم، أي يخشعون ويذلون لشدة فزعهم لأهوال ذلك اليوم.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }.
قيل: الهمس: الكلام الخفي الذي لا يكاد يسمعه.
وقيل: رفع الأقدام ونقلها وهو تحريكها.
قال أبو عوسجة:
{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } [طه: 103]، أي: أخفى صوته.
وقوله: { أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أفضلهم.
فأمّا { قَاعاً صَفْصَفاً }، قال: القاع: الأرض الصلبة التي لا شيء فيها، والصفصف: المستوية، والصفاصف جمع، والقيعان: جمع القاع، و { عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } الأمت: هو العوج وهو التل.
وقوله - عز وجل -: { وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ }، أي: سكنت [{ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً }]، والهمس: الخفى.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا تنفع الشفاعة، ليس أن يكون لهم الشفاعة فلا تنفع، ولكن لا شافع لهم إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه، فضلا أن يؤذن لأحد بالشفاعة؛ كقوله:
{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [النبأ: 38] يقول: الشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه فضلا، وقال: صوابا.
والثاني: لا تنفع الشفاعة إلا من وفق له بما يستوجب الشفاعة له ورضي له قولا وسأله ذلك، وهو قول الشهادة والتوحيد.
فيرجع أحد التأويلين إلى الشفعاء: أنه لا أحد يشفع لأحد إلا بإذنه ورضاه بالقول: قول الشفاعة، والثاني: يرجع إلى المشفوع له: أنه لا أحد يستوجب شفاعة إلا من وفق له الرحمن في الدنيا بالتوحيد وشهادة الإخلاص، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }.
يحتمل قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قبل أن يخلقوا، { وَمَا خَلْفَهُمْ } بعد ما خلقوا وكانوا.
أو أن يكون قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }: ما قدموا من الأعمال، { وَمَا خَلْفَهُمْ }: من بعدهم.
أو أن يكون قوله: { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } كناية عن الخيرات، أي: لا يعلم ما يعملون من الخيرات، { وَمَا خَلْفَهُمْ } من الشرور، وما نبذوا وراء ظهورهم.
وجائز أن يكون المراد من البين والخلف: الأحوال كلها، أي: عالم بجميع أحوالهم وبكل شيء يكون منهم، وهو كقوله:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42] أي: لا يأتيه الباطل ألبتة؛ لأنه ليس للقرآن بين ولا خلف، ولكن المراد ما ذكرنا، فعلى ذلك الأول.
وجائز أن يكون المراد منه: ليس البين ولا الخلف، ولكن إخبار عن إحاطة علمه بهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }.
هذا يحتمل وجهين:
لا يحيطون بالله علما، ولكن إنما يعرفونه على ما تشهد لهم الشواهد من خلقه؛ لأن الخلق إنما يعرفون ربهم من جهة ما يشهد ويدل لهم من الدلالات من خلقه، والإحاطة بالشيء إنما تكون فيما كان سبيل معرفته الحس والمشاهدات، فأما ما كان سبيل معرفته الاستدلال فإنه لا يحاط به العلم.
والثاني: لا يحيطون به علما، أي: بعلمه؛ كقوله:
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [البقرة: 255]؛ وكقوله: { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ... } الآية [الجن: 26-27].
وقوله - عز وجل -: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ }.
قيل: { عَنَتِ }: ذلت وخضعت الوجوه.
وجائز أن يكون ذكر [الوجوه] كناية عن أنفسهم؛ لما بالوجوه يظهر الذلة والخضوع، فكنى بها عنهم.
فإن كان ما أخبر من خضوعهم وذلهم في الآخرة، فهو على ما أخبر من خضوع الخلائق له في الآخرة.
وإن كان بعضهم يتكبر في الدنيا، وإن كان في الدنيا فهو على خضوع الخلقة له خضعت خلقة الخلائق كلهم له.
وقوله: { لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } قد ذكرنا تأويل الحي القيوم فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً }.
أي: قد خاب من حمل الشرك، والظلم هاهنا الشرك، وقد خاب من حمل ما ذكر من الحمل والوزر، وهو ما ذكر في قوله:
{ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً } [طه: 100-101] أي: خاب من حمل ذلك الحمل، والله أعلم.
وقال بعضهم: في قوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الآخرة، { وَمَا خَلْفَهُمْ } من أمر الدنيا، { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ } يعني: [لا يحيط] الملائكة به { عِلْماً }، يقول: هم لا يعلمون من كلامه إلا ما علمهم إياه، فإن كان هذا في الملائكة خاصة، فإنه لا يحتمل ما ذكرنا من التأويل في قوله: { وَمَا خَلْفَهُمْ } من الشرور وما نبذوه وراء ظهورهم؛ لأنهم مطيعون لله لا يعصونه طرفة عين، ويحتمل غيره من التأويلات التي ذكرنا، والله أعلم.
وقال بعضهم: في قوله: { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [طه: 109]: في الشفاعة، { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [طه: 109]: قول: لا إله إلا الله، مسلماً في الدنيا مؤمناً حقا، فذلك الذي رضي، والشفاعة تحل لهم، فأما غيرهم فلا يشفع لهم، وهو ما ذكرنا فيما تقدم.
وقال بعضهم في قوله: { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ } أي: عملت الوجوه للحي القيوم، قالوا: وتأويل { عَنَتِ } العمل، أي: خضعت له بالعمل الصالح في الدنيا، على ما ذكر بعضهم من الركوع والسجود وغيره، وهو في المؤمنين خاصة ليس أن يكون تأويل قوله: { وَعَنَتِ } أي: عملت حقيقة، ولكن من الوجه الذي ذكرنا.
وإن كان التأويل في الآخرة فهو في الفريقين جميعاً يذلون له جميعاً ويخضعون في الآخرة، وإن كان من بعضهم التكبر في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }.
فيه دلالة أنه قد يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحات؛ حيث قال: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }.
وفيه أن الإيمان شرط في قبول الطاعات وجعلها طاعة لله؛ حيث شرط الإيمان فيه.
وقوله - عز وجل -: { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً }.
الظلم هاهنا على مذهبنا: النقصان، لا ظلم الجور؛ لأن الثواب على الأعمال بحق الإفضال لا بحق العدل، فإذا كان على هذا فيخرج قوله: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ } أن ينقص من حسناته شيئاً أو يزيد في سيئاته شيئاً، ويجوز في اللغة ذكر الظلم على إرادة النقصان؛ كقوله في ذكر الجنتين:
{ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [الكهف: 33]، والجنة لا توصف بالظلم الذي هو ظلم جور؛ فدل أنه أراد بالظلم هاهنا النقصان، أي: لم تنقص، بل أتت بثمارها وافية وافرة.
وإن كان على الظلم الذي هو ظلم الجور فهو على النهي، أي: لا تخف منه الظلم والجور.