التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ
٣٧
إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ
٣٨
أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ
٣٩
إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ
٤٠
وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي
٤١
-طه

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ... } الآية يشبه أن يكون المنة حين أنجاه فيما ابتلى بالرّد واشتباه الطريق، حتى قال: { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [القصص: 29] فتلك المنة الأخرى.
أو أن يكون المنة التي ذكر هي ما أنجاه الله حيث [قتل] ذلك القبطي فاشتد له ذلك الخوف حتى بلغ الإياس، فتلك المنة التي ذكر، أو ما ذكر من الوحي إلى أمه { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ }.
وقال بعضهم: { مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } مع النبوة مرة أخرى، ثم بيّن النعمة، ثم قال: { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } إلى آخر ما ذكر، وإلى هذا ذهب أهل التأويل، وإلا قد كان منه إليه من المنن ما لا يحصى، والله أعلم.
ثم الكلام فيما ألهم أمّه في روعها أن تقذفه في البحر أنه يسع لهذا أن يفعل ذلك، ويحل أو لا؟ إذ قد يجوز أن يكون من الشيطان مثل هذا، نحو ما قال:
{ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ... } الآية [الأنفال: 48]، فلم يعرفوا وقت ما كلمهم بهذا: هو شيطان أو غيره؟ فعلى ذلك يجوز أن يلقي الشيطان إليها؛ فكيف وسع لها أن تعمل ما علمت من الأخطار؟ لكن يجوز أن يكون في ذلك الإلهام وما ألقى إليها - آية ومعنى، عرفت بذلك أنّ ذلك من الله، لا من أحد سواه.
أو أن يكون رفع الحجاب والموانع من قلبها، وصار لها ذلك كالعيان.
أو كانت كالمضطرة إلى ذلك؛ فوسع لها ذلك لما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي }:
قال عامة أهل التأويل: ألقى عليه محبة في قلب امرأة فرعون، حيث قالت:
{ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ... } الآية [القصص: 9]، لكن ألقى [عليه] محبّة في قلب امرأته وقلب فرعون أيضاً، حتى كان أشفق الناس عليه وأحبهم، بعد ما كان يقتل الولدان بسببه؛ ليجده ويظفر به، يذكره - عز وجل - رحمته عليه ومننه له، وهي المنة التي ذكر، حيث قال: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ }.
وقوله - عز وجل -: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }، الصنع: هو فعل الخير والمعروف، أي: لنصنع إليك المعروف والإحسان.
وقوله: { عَلَىٰ عَيْنِيۤ }: قال بعضهم: لتُغَذَّى على حفظي، يقال: عين الله عليك: أي كن في حفظ الله، وهو قول الحسن وقتادة.
وقال بعضهم: لتربي على عيني، أي: على علمي، والأوّل أشبه.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ }، أي: من يضمه، يسمى كافل اليتيم الذي يضمه ويضمنه ويحفظه، وهو كقوله:
{ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [آل عمران: 44] أي: يضمها ويحفظها، فهذا يدل أنه كان عندهم من أحبّ الناس إليهم، وأشفقهم عليه، حيث قال: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ }، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } حيث قال لها:
{ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [القصص: 7] وعد لها أن يرده إليها فردّه.
وقوله: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ }، أي: يذهب حزنها الذي كان؛ لأنها قد كانت حزينة بطرحها إياه في اليم؛ ألا ترى أنه قال:
{ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ... } الآية [القصص: 10]، [و] هذا يدلّ أن قوله: { وَلاَ تَحْزَنَ }، أي: يذهب حزنها الذي كان بها.
وقوله - عز وجل -: { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ }:
يحتمل أن يكون الغم الذي أخبر أنه نجاه منه هو الخوف الذي كان به بعد مقتل ذلك القبطي، حيث قال:
{ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [القصص: 33] وقوله: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [القصص: 21]، ونحوه، أو نجاه من أنواع الغموم؛ إذ كان له غموم.
وفي الآية دلالة أن لا قصاص يجب في شبه العمد وإن كان الضرب بشيء لا نجاة فيه؛ لأن موسى - صلوات الله عليه - كانت له قوة أربعين نفراً على ما ذكر، فإنما لطمه لطمة، فقضى عليه، ثم قال:
{ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [القصص: 15] هذا يدل أنه كان لا يحل له قتله، ثم قال: { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } [القصص: 21] سمّاهم: ظلمة، فلو كان يحل القتل ويجب القصاص، لكان لا يسميهم ظلمة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } قال بعضهم: { فُتُوناً }: هو جمع فتنة، أي: فتناك فتوناً.
[وقال بعضهم: { فُتُوناً }:] هو مصدر الفتنة، أي: ابتليناك ابتلاء، أي: بلاء، والفتنة في البلايا والشدائد: الغموم الّتي ذكر أنه نجاه منها.
ويحتمل: النعم والخيرات؛ إذ لم يكن الأنبياء في جميع الأوقات في البلاء، ولكن كانوا في وقت في بلاء وشدة، وفي وقت آخر في نعمة وخير.
أو فتنة بهما جميعاً، على ما أخبر:
{ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35].
وقوله - عز وجل -: { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ }.
هذا - والله أعلم - من المنة التي ذكر، حيث قال: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } [طه: 37].
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ }.
قال بعضهم: بالنبوة والرّسالة.
وقال بعضهم: على موعود، أو على قدر وقت المجيء، فكيفما كان ففيه أن مجيء العبد وذهابه وجميع سعيه يكون بقدر من الله، وتقدير منه، وفيه أنه يجعل الأمور بأسباب، وإن كان يجعل [بعضها] بغير أسباب.
وقوله - عز وجل -: { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }، أي: اخترتك، واصطفيتك لرسالتي.
ونبوّتي، فذكر نفسه؛ لأن بأمره يقوم بأداء ذلك.