التفاسير

< >
عرض

ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي
٤٢
ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ
٤٣
فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ
٤٤
قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ
٤٥
قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ
٤٦
فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ
٤٧
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٤٨
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ
٤٩
قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ
٥٠
قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ
٥١
قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى
٥٢
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ
٥٣
كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ
٥٤
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ
٥٥
-طه

تأويلات أهل السنة

قوله: { ٱذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي }: هو ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي }، أي: لا تضعفا في الدعاء إلى ديني وتوحيدي.
[و] في حرف عبد الله بن مسعود: (ولا تهينا في ذكرى) في البلاغ { إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أمرهما ألا يقصرا ولا يعجزا في تبليغ الرسالة إليه، والدعاء إلى دينه، حيث قال: { ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً }.
قال أبو عوسجة: { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }؛ أي: تربى بعيني، وسئل عن العين، فقال: العين: العلم هاهنا، والعين في غير هذا: المال، والعين: الأديم المتخرق، والعين: المصدر من عان يعين، فهو عائن، والمفعول به معيون: إذا أصابه بعين، والعين: الحقيقة، كقولك: هذا بعينه، أي: بحقيقته، قال: والعينة: السلف، ومثله قوله:
{ وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [هود: 37].
{ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ } أي: يضمه لا يضمنه.
وقال أبو عوسجة: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ }، أي: وقت المجيء { وَٱصْطَنَعْتُكَ }، أي: أخلصتك { لِنَفْسِي }، { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تقصرا ولا تعجزا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً }؛ لأن القول اللّين يكون أقرّ وأثبت في القلوب، وأنجع، وأقرب إلى الإجابة والقبول من القول الخشن البارد، وخاصّة في الملوك والرّؤساء؛ إذ طباعهم لا تحتمل ذلك، ولا تنجع فيهم، بل أكثر صولتهم على من دونهم إنما يكون عند استقبالهم بالخلاف وبما يكرهون، فأمر - عز وجل - رسوله موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً، ويلطفا معاملته؛ ليكون أقرب وأثبت في قلبه وأنجع؛ ولذلك قال: { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ }.
قال الحسن: كل (لعل) من الله فهو على الإيجاب؛ لأنه قد تذكر وخشي، حيث قال:
{ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ... } الآية [الأعراف: 134]، وحيث قال: { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } [يونس: 90] لكن لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت؛ لأنه إيمان دفع واضطرار.
وقال بعضهم: { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } في علومكم، فإن كان على هذا فهو يحتمل الشك، وإن كان على الأوّل فهو على الإيجاب لا يحصل الشك.
ثم اختلف في القول اللّين: قال ابن عباس: هو قول الله:
{ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ * وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } [النازعات: 18-19] [أي:] فتوحّد، قال: هذا القول اللّين.
وعن الحسن: { قَوْلاً لَّيِّناً }: قولا له: إن لك معاداً، إن لك مرجعاً.
وقال بعضهم: { قَوْلاً لَّيِّناً }: قول: لا إله إلا الله.
وقال بعضهم: أي: ليناً، ونحوه، وأصله ما ذكرنا بدءاً.
وقوله - عزّ وجلّ -: { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ }، قال أهل التأويل: قوله: { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ }، أي: يعجل بالعقوبة من قبل أن يسمع حجتنا.
أو أن يطغى بقتلنا بعدما سمع الحجة منا.
وجائز أن يكون أحد هذين في الفعل، والآخر في القول: أن يفرط علينا أو أن يطغى أيهما كان؟ لأنه قال في الجواب لهما: { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ }، أي: أسمع ما يقول لكما، وأرى ما يفعل بكما، فهذا يدل - والله أعلم - أن قوله: { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } يرجع أحدهما إلى القول، والآخر إلى الفعل؛ لأنه قال في وقت:
{ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } [غافر: 26] ونحوه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَ تَخَافَآ }، يحتمل على نفي الخوف، والأمن منه، كقوله:
{ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر: 88] ليس على النهي عن الحزن، فعلى ذلك الأول.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّنِي مَعَكُمَآ }: في النصر والمعونة لكم والذب عنكم والدفع، { أَسْمَعُ } ما يقول { وَأَرَىٰ } ما يفعل، وقد كان منه إليهما: النصر والمعونة لهما، والدفع عنهما.
وقوله - عز وجل -: { فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ }:
يشبه أن يكون { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } هذا، أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة، ولكن قولا: { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } لا يحتمل أن يكون أوّل ما أتياه قالا:
{ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 17] [ولكن] قد سبق منهما الدعاء إلى توحيد الله والإفراد له بالألوهية والربوبية؛ فإذا ترك الإجابة، فعند ذلك قالا له: { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ }.
[و] هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: كأنه كان يمنع بني إسرائيل عن الإسلام، وهم أرادوا الإسلام، فقالا: أرسل معنا بني إسرائيل ولا تمنعهم عن الإسلام.
أو: كان يستعبدهم، فأمره أن يستنقذهم من يديه، كقوله:
{ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الشعراء: 22] ألا ترى أنّه قال: { وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ }.
وقوله - عز وجل -: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } وهو ما قال:
{ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [الإسراء: 102].
وقوله - عز وجل -: { وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ }.
هذا يدل على أنه لا يبدأ بالسلام على أهل الكفر، ولكن يبدأ بأهل الإسلام، وفيه أن تحية أهل الإسلام هو السلام، لا قول الناس: (أطال الله بقاءك)، ونحوه.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } كأنه قال: والسلام على من اتبع الهدى، والعذاب على من كذب وتولى.
والسلام هو اسم كل خير وبر.
وقال القتبي: { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } أي: يعجل ويقدم، قالوا: الفرط: التقدم والسبق، وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنَا فَرَطكم على الحَوْض" ، وهو من السبق، وكذلك قال أبو عوسجة: { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } أي: يعجل، يقال: فرط يفرط فرطاً: أي: عجل، وقال: { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تقصرا ولا تعجزا في البلاغ، { وَٱصْطَنَعْتُكَ } أي: استخلصتك لنفسي، فإذا لم يفهم من قوله: { لِنَفْسِي }: ذاته فكيف يفهم { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } ما لم يفهم من الخلق، ولا يتصور هذا وأمثاله إلا في وهم من اعتقد التشبيه ولم يعرف ربّه، وإلاّ لو عرف ربّه حق معرفته، لكان لا يتصور في وهمه تشبيه الخلق به، ولا تشبيهه بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }، وقال في آية أخرى:
{ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } الآية [الشعراء: 23-24]، { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الشعراء: 28]، سأله عن ماهيته، فأجابه موسى عن آثار صنعه في خلقه، وأنه ربّ كل شيء، وربّ ما ذكر، لم يجبه عما سأله من ماهيته وكيفيته، حيث قال: { فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ }، فجوابه عن الماهية: ربنا فلان، وأنه كذا، ففيه دلالة أن الله لا يعرف من جهة الماهية والكيفية؛ أذ لا ماهية ولا كيفيّة؛ إذ هما أوصاف الخلق، فالله سبحانه يتعالى عن أن يوصف بشيء من صفات الخلق.
ثم يحتمل قوله: { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } وجوهاً:
أحدها: أعطى كل شيء يكون، صورة ما قد كان معاشه وقوامه؛ ليعلم أنه قادر على بعثهم على الصّورة التي كانت.
وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ هَدَىٰ } فهو على قوله: أعطى كل شيء ثم هدى، فإن كان التأويل: أعطى كل شيء صورته وهيئته، فقوله: { ثُمَّ هَدَىٰ } للنجاة، وإن كان أعطى جنسه وشكله ثم هداه للنسل، وإن كان قوله: { أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ } ما به معاشهم وقوامهم، ثم هداه لما يتعيشون به، ويقومون به، وهداه لما يصلح لهم وما لا يصلح لهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ }.
قال بعضهم: إنما سأل فرعون موسى عن القرون الأولى؛ لأنه سمع من ذلك الرجل المؤمن حين قال:
{ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ } [غافر: 30] ولم يكن لموسى بهم علم، فوكل علمهم إلى الله، ثم أنزل الله عليه التوراة، فبيّن له فيها أمرهم.
وقال بعضهم: سأل فرعون موسى ذلك؛ لأن موسى أخبر أنه يبعث، وخوفه على ذلك، فعند ذلك قال: { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } لم يبعثوا منذ أهلكوا؟ فقال له ما قال.
وقال بعضهم: قوله: { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } إنمّا سأله عن حال القرون الأولى أهم في الجنة أو في النار، فقال: { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي }.
وقال بعضهم: إنما سأله عن أعمالهم: فما أعمال القرون الأولى؟ فقال: { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } أي: أعمالهم عند ربي في كتاب مرقوم، وقوله:
{ سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21] وقوله: { فِي كِتَابٍ } قال بعضهم: الكتاب الذي أثبتت فيه أعمالهم، وقال بعضهم: في اللوح المحفوظ، { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } قال: هما واحد: لا يضل ولا ينسى ذلك الكتاب، وقرئ: (يُضِلُّ) ولا يُضِلُّ من ختم بالهدى، و { لاَّ يَضِلُّ } أي: لا يَضِلُّ ذلك الكتاب الذي ذكر، ليس أنه يرجع إلى قوله: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي }.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } هو على قوله: { رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ }، { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً، والذي { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً } يذكر نعمه التي أنعمها عليهم؛ يقول: جعل لكم الأرض بحيث تفترشون، وتعيشون فيها، وتقرون عليها بعدما كانت تميد بكم، { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي: طرقاً تسلكون فيها، وتختلفون إلى البلدان النائية في حوائجكم وما به معاشكم وقوامكم ما لولا ذلك ما قام معاشكم، ولا قضيت حوائجكم { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي: الماء { أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ }: ما به معاشكم وقوامكم وقوام أنعامكم، على اختلاف ما جعل لكل دابة من ذلك قوتاً وغذاء، ولم يجعل ذلك لغيرها؛ لأن من الدواب ما يأكل النبات؛ ومنها ما يأكل الحب، ومنها ما يأكل اللحم، ونحوه.
{ كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ }، أي: كلوا أنتم وارعوا أنعامكم فيما به قوامها.
{ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ }:
قال بعضهم: { لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } أي: لأولي العقول.
وقال الحسن: إن في ذلك لآيات للذين يتناهون عما نهوا عنه.
وقال بعضهم: لآيات لأولي الورع، وأولي النهى: هم أهل العقول؛ لأنه بالعقل ينهى، وبه ينتهي، وبه يؤمر ويؤتمر، فذلك آيات لهم، وكذلك قال القتبي: لأولي النهي: أولي العقول، وقال: النهية: العقل.
وقال بعضهم: { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ }، أي: ما حالها؟ يقال: أصلح الله بالك، أي: حالك.
وقوله - عز وجل -: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }.
يحتمل قوله: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } وجوهاً:
أحدها: منها خلقنا أصلكم، وهو خلق آدم، لكنه أضاف خلقنا إليها وإن لم نخلق منها كما أضاف الإنسان إلى النطفة وإن لم يكن الإنسان منها، لكنه أضاف إليها؛ لأنها أصل الإنسان؛ فعلى ذلك إضافة خلق أنفسنا إلى الأرض.
والثاني: نسب إليها؛ لأنا من أول ما ننشأ إلى آخر ما ننتهي إليه يكون قوامنا ومعاشنا من الخارج من الأرض؛ فنسب خلقنا إليه، وهو ما قال:
{ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً } [الأعراف: 26] واللّباس على هيئته ما هو لم ينزل من السماء، لكنّه أضافه إليها؛ لأنه كان بأسباب من السماء وأصله منها.
وقال بعضهم: ذكر أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب ذلك المكان الذي يدفن فيه الإنسان فيذره على النطفة التي قضى الله منها الولد؛ فيخلق من التراب والنطفة، فذلك معنى الإضافة إليهما، لكن هذا سمعيّ لا يعرف إلا بالخبر، فإن ثبت فهو هو، وإلاّ لا يجوز أن يقال ذلك رأياً.
وقوله - عز وجل -: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }.
قوله: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } إذا متم، أي: تقبرون فيها، فيخرج مخرج الامتنان علينا، وذلك لنا خاصّة دون غيرنا من الحيوان، لئلا نتأذى بهم، كقوله:
{ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [عبس: 21] أو أن يكون قوله: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }، أي: تصيرون تراباً إذا متم، فيخبر عن قدرته وسلطانه، أي: من قدر على أن صيّر الإنسان تراباً، بعد أن لم يكن تراباً لقادر على أن يصيره إنساناً على ما كان بعدما صار تراباً، وهو ما قال: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ } أي: منها نبعثكم وننشئكم مرة أخرى، والله أعلم.