التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ
١٠٧
قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٨
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ
١٠٩
إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ
١١٠
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ
١١١
قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١١٢
-الأنبياء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } جائز أن يكون كل رسل الله رحمة من الله للعالمين، وكذلك كل كتب الله رحمة للعالمين على ما ذكر في عيسى: { وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [مريم: 21].
وجائز أن يكون لرسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - خاصّة؛ فيكون في وجهين: أحدهما: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وما أرسلناك: إلا جعلناك رحمة للعالمين.
أو أن قال: وما أرسلناك إلا رحمة منا للعالمين، والعالمين: هو الجنّ والإنس؛ لأنه بعث إليهم، ثم الرحمة فيه يحتمل وجوها:
أحدها: تأخير العذاب عنهم.
والثاني: أنه رحمة، حتى إذا اتبعوه يكون به نجاتهم، وبه عزهم في الدنيا والآخرة.
والثالث: شفاعته لأهل الكبائر في الآخرة، ونحو ذلك.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } كأنه على الدعاء خرج الأمر، كأنه قال: أمرني ربي أن أخبركم: أن إلهكم إله واحد؛ فاصرفوا العبادة إليه، ولا تشركوا فيها غيره.
أو أن يقول: أوحى إليّ أن أدعوكم إلى إلهكم الذي هو إله واحد، وإلا كان رسول الله يعلم أنه إله واحد، لكنه خرج على الدعاء والإخبار أنه إله واحد.
أو أن يخبرهم أني [أدعوكم] إلى ما أدعوكم إليه وآمركم، إنما أدعوكم وآمركم بالوحي بما أوحي إليَّ، لا من تلقاء نفسي:
{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ } [الأنبياء: 45] والله أعلم.
وقوله: { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } ظاهره وإن كان استفهاماً فهو على الأمر والإيجاب كأنه قال: قد أوحي إلي أن إلهكم إله واحد، فأسلموا له وأخلصوا العبادة له، لا تشركوا فيها غيره، والإسلام هو أن يجعل كلية الأشياء والأعمال كلها لله عز وجل، ثم هو يكون على وجهين:
أحدهما: على الاعتقاد أن يعتقد كلية الأشياء لله، لا على تحقيق ذلك الفعل.
والثاني: على تحقيق جعل الأشياء كلها لله اعتقادا وفعلا وقولا، منه يخاف، ومنه يرجو، لا يخاف غيره، ولا يرجو من دونه، فهو حقيقة الإسلام.
وقوله - عز وجل -: { فَإِن تَوَلَّوْاْ } هذا يدل على أن الأوّل خرج على الأمر والدعاء، حيث قال: { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإجابة إلى ما دعوتهم إليه { فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } أي: أعلمتكم على عدل وحق، كقوله:
{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [آل عمران: 64] أي: عدل بيننا وبينكم، فعلى ذلك هذا محتمل أن يكون قوله: { عَلَىٰ سَوَآءٍ } أي: على عدل وحق.
ويحتمل أيضاً: { ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } أي: أعلمتكم، أي: حتى أنا وأنتم في العلم على سواء، أي: على الاستواء في العداوة والمخالفة، وفي كل أمر على الاستواء، وهو كقوله:
{ فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } [الأنفال: 58] على الاستواء في العداوة، أي: انبذ إليهم حتى تكون أنت وهم على الاستواء في العلم بالمنابذة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟
ثم يحتمل قوله: { مَّا تُوعَدُونَ } الساعة والقيامة التي كانوا يوعدون بها وهم كانوا يستعجلون بها، كقوله:
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18] فيقول: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟
ويحتمل قوله: { مَّا تُوعَدُونَ } من العذاب الذي كان يعد لهم أنه نازل بهم في الدنيا، وهم كانوا يستعجلون كقوله:
{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [سبأ: 29] فيقول: ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون من العذاب؟ والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } يخرج ذلك على الوعد والتنبيه والزجر عن المكر برسول الله والقول فيه بما لا يليق به؛ يخبر أنه يعلم ما تظهرون من القول { وَمَا تَكْتُمُونَ } أي: ما تسرون من المكر به.
وفي دلالة إثبات رسالة محمد، حيث أخبرهم عما أسروا فيما بينهم من المكر به.
وقوله: { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } ذكر أنه ما أدري { لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ }، ولم يبين ما الذي يكون فتنة لهم.
لكن بعض أهل التأويل قال: ما أدري ما قلت لكم من العذاب والسّاعة: هل يؤخر عنكم لمدّتكم ومتاع لكم إلى حين فيصير ما قربت لكم من العذاب والساعة فتنة لكم فتقولون: لو كان ما خوفنا به محمد حقّاً، لكان نزل بعد؛ فيصير قولي ذلك فتنة لكم؛ هذا محتمل.
ويحتمل وجهاً آخر، وهو: لما قال: { وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ }: أنه كان خوفهم نزول العذاب بهم، ولكن لم يبين لهم الوقت أنه متى ينزل بهم، فيقول: ما أدري لعل تخويفي إياكم العذاب على بيان وقته فتنة لكم؛ لأنه إذا تأخر عنهم العذاب متاعاً لهم يأمنون عنه؛ فيحملهم ذلك على تكذيبه فيما خوفهم من العذاب، ويكون ما يأمنون من العذاب متاعاً لهم؛ لأنه لو كان وقت نزول العذاب مبيناً لكانوا أبداً على خوف فينقض ذلك الخوف ويمنعهم عن المتاع وإن لم يبين لهم الوقت، فإذا تأخر عنهم يأمنون ويتمتعون، فيقول: ما أدري، لعل تخويفي إياكم لكم فتنة [وعندنا:] ألا يجب أن يفسر قوله: { فِتْنَةٌ لَّكُمْ } أنه أي شيء أراد؟ وهم قد عرفوا أنه ما أراد به؟ وليس لنا أن نفسر ذلك: أنه أراد كذا إلا ببيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } تعلق أكثر المعتزلة بظاهر هذه الآية في مسائل لهم؛ يقولون: يجوز أن يدعى بدعوات يعلم الداعي أنه قد أعطي ذلك له، من نحو سؤال المغفرة: ربّ اغفر لي، وهو مغفور [له]، وربّ أعطني كذا، وهو معطى له، ويقول: رب اغفر لي، وهو يعلم أنه لا يغفر له، ونحو هذا من المسائل لهم، فيحتجون بظاهر قوله: { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } أمر رسول الله أن يدعو به على علم منه أنه لا يحكم [إلا] بالحق.
ونحن نقول: إنه لا يجوز أن يدعى بمثل هذا الدعاء على الإطلاق إلا على اعتقاد معنى آخر في ذلك كأن الله فعل ذلك؛ فيكون ذلك منه عدلا وحقا، نحو أن يكون قوله: { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } أي: بالنصر له، والظفر على أعدائه، وله ألا ينصره، ويكون ذلك عدلا منه وحقا.
أو أن يكون المراد به: { ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } أي: بالعذاب الذي هو حكمك على مكذبي الرسل، فأمّا أن يعتقد من قوله: { رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } ما اعتقد المعتزلة فيحصل الدعاء به: اللهم لا تَجُرْ ورب اعدل، ومن عرف ربه هكذا فهو ليس يعرف حقيقته.
وقال أبو عبيدة في قوله: { رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ }، أي: رب احكم بحكمك وهو الحق، وهو محتمل مستقيم، وقد ذكرنا هذه المسألة وأمثالها فيما تقدم.
وقوله - عز وجل -: { وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ } أمر رسوله أن يستعين بالله - تعالى - على ما يقولون من تكذيبهم إيّاه فيما يدعو ويعد.
قال القتبي: { ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } أي: أعلمتكم؛ فصرت أنا وأنتم على سواء، وإنما يريد؛ بـ { ءَاذَنتُكُمْ }: أخبرتكم وأعلمتكم ذلك؛ فاستوينا في العلم، وهو ما ذكرنا.
وقال أبو عوسجة: قوله: { ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ }، أي: كلكم. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وعليه التكلان.