التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ
٤٣
بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٤٤
قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ
٤٥
وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
٤٦
وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ
٤٧
-الأنبياء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ }.
أي: من يحفظكم ويحرسكم من عذاب الرحمن.
وقيل: من يدفع عنكم عذاب الرحمن.
ثم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: قوله: { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي: لو سألتم من يكلؤكم من عذاب الرحمن لأقروا لك أن الرحمن هو الذي يكلؤكم ويحفظهم من عذابه، لا الآلهة التي يعبدونها، وهو كقوله:
{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الرعد: 16] وقل { مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [المؤمنون: 88] ونحوه، فسيقولون: الله، لا الآلهة التي يعبدونها، فقل: أن كيف صرفتم عن عبادته وعبدتم دونه من لا يكلؤكم ولا يدفع عنكم العذاب، وقد عرفتم أن الرحمن هو الذي يكلؤكم بالليل والنهار، وهو إله السماوات والأرض، فكيف عبدتم من ليس هو بإله؟! فيخرج عن الاحتجاج عليهم ولزوم الحجة لهم؛ لئلا يقولوا: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } [الأعراف: 172].
والثاني: يخرج على التذكير والتنبيه لهم؛ لأنهم كانوا ينكرون الرحمن ويقولون: ما الرحمن؟ وقوله:
{ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ } [الرعد: 30] فيخرج قوله: { مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } أي: كيف تنكرون الرحمن وتكفرون به وهو يكلؤكم بالليل والنهار عن عذابه، وعلى هذا يخرج: { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ }، أي: بل هم عن ذكر ربهم الرحمن معرضون، أي: منكرون له، والله أعلم.
وقوله: { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا }، أي: ليس لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا، هو على النفي، أي: ليس لهم الآلهة من دونه وإن كان ظاهره استفهاماً، ثم بين موضع الاحتجاج عليهم، وهو ما أخبر عن عجزهم حيث قال: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } أي: لا يستطيع الآلهة نصر أنفسها إذا أرادوا بها سوءاً، { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } أي: ينصرون، تأويله: أن كيف عبدتم من دونه واتخذتموهم آلهة رجاء شفاعتهم ووسيلتهم حيث قالوا:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] ونحوه، وفي قولهم: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، فإذا كانوا لا يملكون نصر أنفسهم إن أصابها سوء ولا يصحبها من يدفع عنها السوء، فكيف اتخذتم آلهة دونه، فمن كان عن دفع السوء عن نفسه ونصرها عاجزاً، فهو عن دفعه عن الآخر ونصره أعجز.
ثم بين الذي حملهم على ذلك وهو ما قال: { بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ }، ولم يأخذهم بالعقوبة بأعمالهم التي عملوها [فظنوا] أن الله راض عنهم وأنهم على الحق؛ ولهذا قالوا:
{ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [الأنعام: 142] ادعوا رضاء الله بما هم عليه وآباؤهم.
ثم بين أنه وإن تركهم وقتاً طويلا ومتعهم عليه أنه قد نقص عما كانوا يملكون هم؛ حيث غلب عليهم رسول الله على بعض أملاكهم وجعله ملكاً للمسلمين وهو قوله: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ }، وجعلناها ملكا للمسلمين.
ثم اختلف في تأويل هذا؛ قال الحسن: قوله: { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } أي: اعلموا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها، أي: نحشرهم يوم القيامة من أطراف الأرض إلى المحشر، فذلك نقصها.
وقال غيره: أفلا يرون أن رسول الله كلما بعث إلى أرض ظهر عليها، قال: ننقصها بالظهور عليها أرضاً فأرضاً، { أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ }، أي: ليسوا هم الغالبين، ولكن رسول الله هو الغالب عليهم.
وقال ابن عباس: ننقصها: ذهاب فقهائها وخيار أهلها.
وقال قتادة: ننقصها بالحرث، وكذلك قال عكرمة: ننقصها من أطرافها بالموت، وقال: لو كانت الأرض تنقص لم يوجد للرجل مجلس يجلس فيه، ونحو هذا قد قالوا فيه.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِٱلْوَحْيِ }.
هذا - والله أعلم - يخرج على وجهين:
أحدهما: خرج جواباً لقولهم:
{ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [الشعراء: 154] أنهم كانوا ينكرون رسالته ويقولون: إنه بشر كيف خص هو به؟ فيقول: إني لست أنذركم لأني بشر، ولكن إنما أنذركم بالوحي من الله، وأنتم ممن لا تقبلون بشارة ربي ونذارته.
والثاني: قال ذلك لما تقدم منه في الآيات النذارةُ المرسلة غير مضافة إلى الله، فأمره أن يقول لهم: إني فيما أنذركم من النذارات، ولم أنذركم من ذات نفسي، ولكن إنما أنذركم بالوحي من ربي، فمعناه - والله أعلم - أي: فيما أنذرتكم مما نزل بالأمم المتقدمة والأنباء التي أخبرتكم عنها مما لم أشهدها ولا أنتم، بل إنما أنذركم بالوحي، فذلك موضع الاحتجاج عليهم في إثبات رسالته.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يَسْمَعُ ٱلصُّمُّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ }.
هذا - والله أعلم - يقول: إن الأصم إذا أريد أن يدفع عن المهالك لا سبيل أن يدفع عنها ويكف بالدعاء والنداء، ولكن إنما يكف ويدفع عن المهالك بالأيدي والراحات، كأنه قال ذلك لما أكثر دعاءهم إلى ما به نجاتهم فأبوا ذلك ولم يجيبوه، فقال عند ذلك: إنكم لا تسمعون الدعاء والنداء إلى ما به نجاتكم، ولكن تعرفون ذلك بالقتل والسيف.
أو أن يقول ذلك: إنكم صم عن الحق حتى لا تسمعونه كالأصم بالسمع، والأصم بالسمع لا يدعى ولا ينادى؛ لأنه لا يسمع، ولكن يدعى باليد والإشارة، فعلى ذلك أنتم صم عن الحق لا تدعون بالنداء، ولكن بالذي يعرف الدعاء وهو اليد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ }.
قال الحسن: { نَفْحَةٌ } أي: طائفة من عذاب ربك.
وقال بعضهم: نقمة من ربك.
وقال بعضهم: عقوبة ربك، وأصل النفحة: الرمية؛ ولذلك سمي نفحة الدابة: أي: رميها، وهو ما ذكر من رمي الشرر؛ كقوله:
{ إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَٱلْقَصْرِ } [المرسلات: 32].
وقوله - عز وجل -: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }.
في ظاهر الآية أن الموازين هي القسط، والقسط هو العدل؛ لأنه قال: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ }؛ فكأنه قال: ونضع الموازين التي توضع في الدنيا ويعرف بها حقوق الناس في الآخرة العدل الذي يعرف به حدود الأشياء وأقدارها، فيكون الموازين العدل ما ذكر بقوله: { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً }، أي: لا ينقص من حسناته أو يزاد على جزاء سيئاته، ولكن يوفى كل جزاء عمله.
ويحتمل أن يكون قوله: { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ } على الإضمار، أي: نضع الموازين التي تكون في الدنيا يوم القيامة بالعدل لا تطفف ولا تنقص ولا تحسر كما تفعلون في الدنيا، ولكن العدل لا تطفف ولا تنقص ذلك تسوى وتستوفى مستويا من غير زيادة ولا نقصان؛ لأن الزيادة والنقصان إنما تكون في الشاهد لوجوه: الجهالة، أو للحاجة، أو للجور، فيحمله كله على الزيادة والنقصان، والله - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛ لأنه عالم بذاته غني بذاته عادل، فلا وجه للخسران منه والزيادة فيه.
وقوله - عز وجل -: { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا }.
أي: أتينا بجزائها، أو أتينا بها، أي: بعينها لا يفوت شيء ولا يغيب عنه.
وليس المراد من ذكر { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } و
{ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40] الذرة، والحبة، ولكن ذكر على التمثيل، أي: لا يفوت عنه شيء ولا يغيب ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسي، ولكن محفوظ محاسب.
وقوله - عز وجل -: { وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ }.
لا يشغله كثرة الحساب وازدحامه، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد أنه إذا كثر الحساب عليه وازدحم شغله ذلك عن حفظ الحساب، والله أعلم.