التفاسير

< >
عرض

وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
-الأنبياء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَذَا ٱلنُّونِ }:
قال بعضهم: "ذا النون" هو اسم من أسمائه سُمِّيَ.
وقال بعضهم: سماه ذا النون؛ لكونه في بطن النون وهو الحوت، أي: صاحب النون، سمي باسمين مختلفين:
أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله وما كان، وهو ما سمى عيسى مرة، وسماه مسيحاً أخرى، أحدهما: اسم موضوع، والآخر: مشتق من فعله، وهو مما كان يمسح به المرضى والموتى فيبرءون.
وكذلك "ذا الكفل" يخرج على هذين الاسمين: أحدهما موضوع له، والآخر: مشتق من فعله على ما ذكرنا. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } اختلف فيه:
قال بعضهم: { مُغَاضِباً } لربه، أي: حزيناً له؛ لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزيناً لذلك.
وقال بعضهم: مغاضباً للملك، وذلك أو قومه قد أسرهم عدوّهم، وقد كان الله أوحى إليهم فقال: إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني، فإذا دعوتموني أستجب لكم، فلما أسروا نسوا أن يدعوه زماناً حتى إذا ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن ابعثوا رجلا قوياً أميناً فإني ملقٍ في قلوب الذين أسروا قومهم أن يرسلوهم، وفي القصّة طول، غير أنا نختصر، فبعث ملكهم يونس إلى أولئك الأسارى ليستنقذهم من أيديهم، فخرج وائتمر بأمره، لكنه غضب عليه لما اشتد عليه، فذلك قوله: { ذَّهَبَ مُغَاضِباً } للملك، حيث أمره بالخروج إلى أولئك الأسرى.
وقال بعضهم: ذهب مغاضباً لقومه، وذلك يخرج على وجوه:
أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه خرج مكيدة لقومه؛ لأن السنة فيهم أنه إذا خرج رسوله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب، فخرج من عندهم ليخافوا العذاب فيؤمنوا.
والثاني: خرج إشفاقاً على نفسه؛ لئلا يقتل؛ لما أن قومه هموا بقتله، فخرج لئلا يقتل إشفاقاً على نفسه، كما خرج رسول الله من بين أظهر قومه لما هموا بقتله، لكن رسول الله خرج بإذن، ويونس بغير إذن.
والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة وأيس من إيمانهم خرج ليفرغ لعبادته؛ إذ كان مأموراً بعبادة ربه ودعاء قومه إلى ذلك، فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربّه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوتب لذلك، ولله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } قال بعضهم: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي: لن نضيق عليه، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم، فيقال: فلان مقدر عليه، ومقتر، ومضيق عليه الأمر، وهو كقوله:
{ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الإسراء: 30] أي: يضيق، وقوله: { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] أي: ضيق عليه رزقه.
وقوله - عز وجل -: { فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ } قالوا: في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت.
وقال بعضهم: التقم الحوت حوت آخر، فكان في بطن حوت، وحوت آخر، وظلمة البحر، فقال: { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } وحد ربّه ونزهه عن جميع ما قيل فيه، ثم اعترف بذلته وذنبه فقال: { إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } فسمع الله دعاءه، وقبل توبته، وأخبر أنه كشف عنه الغم الذي كان له حيث قال: { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ } وأخبر أنه كذلك ينجي المؤمنين، فيرجى أن من ابتلاه الله بالبلاء والشدة فدعا بما دعا به يونس أن يفرجه الله عنه، حيث قال: { وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مَنْ دَعَا بدَعْوةِ ذِي النونِ اسْتُجِيبَ له" .
ثم قال بعضهم: الْتَقَنَ ذلك من الأرض لما بلغ إلى قرار الأرض فقال ذلك.
وقال بعضهم: كان رجلا صالحا عابدا وكان عود نفسه ذلك قبل أن يدخل بطن الحوت، فلما دخل فيه فكان يقول فيه على ما كان يقول من قبل، وهو كقوله:
{ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ... } الآية [الصافات: 143-144].
قال بعضهم: هذا أنه كان من المسبحين قبل هذا وإلا للبث فيه إلى ما ذكر.
وقال بعضهم: لولا أنه كان قال هذا القول: { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ }، للبث فيه، فيكون على هذا التأويل:
{ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ } [الصافات: 143]، أي: صار من المسبحين، والأوّل أشبه، ثم اختلف في قوله: { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ }:
قال بعضهم: ذلك الغم هو ما ابتلاه الله بالضيق في بطن الحوت والبحر، فنجاه من ذلك الغم، ولكن جائز أن يكون نجاه من الغم الذي كان به سبب خروجه من بين أظهرهم.
وقول أهل التأويل: إن يونس مكث في بطن الحوت أربعين يوماً، أو ثلاثة أيام، ونحو هذا فذلك لا يعلم إلا بالوحي، فإن ثبت الوحي فهو هو، وإلا ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة.
وقال القتبي: { وَذَا ٱلنُّونِ } يعني: ذا الحوت، والنون: الحوت.
وقال أبو عوسجة: إنما سمي: ذا النون؛ لأن الحوت التقمه، والنون: الحوت، والنينان: الجمع.
وقال القتبي: قوله: { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي: لن نضيق عليه، قال: فلان مقدر عليه ومقتر، ومنه:
{ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] أي: ضيق عليه، ومنه قوله أيضاً: { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الإسراء: 30] أي: ضيق، والله أعلم.