التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
-الحج

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } اختلف في قوله: { عَلَىٰ حَرْفٍ }:
قال بعضهم: { يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ }، أي: على شك يمتحن ربه؛ على أنه [إن] أعطاه طمعََه وأملَه في هذه الدنيا حقق له الألوهية والعبادة، وإن لم يجد طمعه وأمله لا يحقق له ذلك، ويقول: ليس هو بإله؛ إذ لو كان إلهاً لأعطاه ما يطلب منه على هذا الشك، يعبد بالامتحان.
وقال بعضهم: { عَلَىٰ حَرْفٍ } أي: على شرط، أي: يعبده على شرط الإعطاء؛ يقول: إن أعطاني أملي عبدته، وإن لم يعطني ذلك لم أعبده؛ تكون عبادته على هذا الشرط.
وقال بعضهم: { يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } أي: على حال واحدة، [و] على جهة واحدة، ليس يعبده على حالين كالمؤمن يعبده في حالين جميعاً: حالة الظاهر، وحالة الباطن، وحالة الضراء والسراء، وحالة السعة والشدة على ما تَعَبَّدَه الله، كقوله:
{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168] ونحوه، عبده المؤمن على الحالين جميعاً على ما تعبده الله، والمنافق إنما يعبده على حالة السعة [و] الخصب؛ لأنه ليس يعرف ربّه حق المعرفة، فإنما يعبد السّعة والرخاء، وأمّا المؤمن فإذا عرف ربّه عبده في الأحوال كلها لما عرف نفسه عبداً لسيّده، ولم ير للعبد سعة ترك العبادة لمولاه في كل حال، ورأى للمعبود حق استعباده واستخدامه في كل حال: في حال الضيق وحال السّعة.
أو أن يكون رأى ما يصيبه من الشدائد والبلايا بتقصير كان منه وتفريط؛ فعبده في الأحوال كلها.
أو لما رأى وعرف [أن نعم] ربه عليه كثيرة، ورأى شكر تلك النعم عليه لازماً؛ فعبده في الأحوال كلها؛ شكراً لتلك النعم، وأمّا أولئك لم يروا لله على أنفسهم نعماً فإنما عبدوه على الجهة التي ذكرنا، كانوا فرقا من الكفرة:
[منهم] من يعبد الله في حال الشدة والضيق ولا يعبده في حال السعة والرخاء، كقوله:
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً } [الإسراء: 67]، ونحوه.
ومنهم من كان يعبده في حال السعة والرخاء، وهو ما ذكرنا من أمر المنافق.
وأمّا المؤمن فهو يعبده في الأحوال كلها لما رآه معبوداً حقيقة، على ما ذكرنا.
وقوله: { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ }: قد ذكرنا أن الفتنة هي المحنة التي فيها بلاء وشدة.
وقوله: { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ }:
قال بعضهم: هو على التمثيل؛ على ما ذكرنا في قوله:
{ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } [الأنفال: 48]، وقوله: { ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران: 144].
وقال بعضهم: على تحقيق انقلاب وجهه؛ لأنه كان عبادته ظاهرة، لم يكن يعبده في الباطن في حال السعة، فلما أصابته الشدة ترك عبادته ظاهراً على ما كان باطنه، فهو انقلاب وجهه، والله أعلم.
وقوله: { خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ }: أمّا خسران الدنيا؛ لأنه فات عنه ما كان يأمله بزوالها، وخسران الآخرة ظاهر: العذاب والشدائد.
وجائز أن يكون خسران الدنيا هو خضوعه لمن لا يضر ولا ينفع للعبادة للأصنام { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ }؛ لأنه خسر في الدارين جميعاً أمله وطمعه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ }.
قيل: إن الآية في المنافقين، وهم كانوا لا يعبدون على حرف ليست بعبادة الله، إنما هي عبادة للشيطان، فأخبر أنه يعبد ما لا يضرّه إن ترك العبادة له، ولا ينفعه إن عبده؛ يدل على ذلك: [قوله]: { هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ }؛ لأنه عبد من لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده، فذلك هو الضلال البعيد.
وقوله - عز وجل -: { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ }.
قال بعضهم: تأويله: يدعو من ضرره أقرب من نفعه.
وقال بعضهم: قوله: { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ }، هذا إن عبده، ضرّه عبادته إيّاه في الآخرة والأولى؛ حيث قال: { مَا لاَ يَضُرُّهُ } إن ترك عبادته في الدنيا { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن عبده، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ }.
قال بعضهم: { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ } أي: الولي، وهو الشيطان { وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } يعني: الصاحب، كقوله:
{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 19] أي: صاحبوهنّ بالمعروف.
وقال بعضهم: { لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ } أي: الولي، وهو الشيطان، { وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ } أي: القرين الذي لا يفارق.
وقال القتبي: أي: الصاحب والخليل، وهو ما ذكرنا، كله واحد.
وقال أبو عوسجة: العشير: الرفيق الذي تعاشره وتصاحبه وتخالطه، والعشير: الزوج أيضاً.
وقال القتبي: { ثَانِيَ عِطْفِهِ }: يتكبر معرضا، وكذلك قال أبو عوسجة: { ثَانِيَ عِطْفِهِ }، أي: متكبرا متجبرا، والعطف في الأصل: الجانب، والأعطاف جمع.
وقوله: { مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } قال: لا يدري أحق هو أم باطل؟ وهو الشك، يقال: إني من هذا الأمر على حرف، أي: على شك، لست بمستيقن.
وقال القتبي: على حرف واحد، وعلى وجه واحد، وعلى مذهب واحد.
وقال قتادة: على شكّ، على ما ذكرنا.
وقال أبو عبيدة: على حرف، أي: لا يدوم، ويقول: إنما أنا حرف، أي: لا أثق بك، ونحو هذا، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم.
وقال بعضهم: قوله: { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ } في الآخرة { أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ }، { ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } أي: يرجع إلى دينه.