التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
١٨
هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ
١٩
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ
٢٠
وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
٢١
كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٢٢
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ
٢٣
وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ
٢٤
-الحج

تأويلات أهل السنة

وقوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } حرف (من) في ظاهر اللغة واللسان إنما يعبر به عن الممتحن من البشر والجن والملائكة، وأما الموات فإنه لا يعبر به عنه، وإنما يعبر عنه بحرف (ما)، لكن ذكر في آخره - وهو قوله: { وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ... } الآية - ما يدل أنه أراد الكل: الممتحن، والموات جميعاً، حيث قال: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ } وإلا ظاهره ما ذكرنا: أنه إنما يعبر بـ (من) عن الممتحن، وبحرف (ما) عن الكل.
[و] جائز أن يكون عند الاجتماع يذكر باسم الممتحن؛ على ما يذكر عند اجتماع الذكر والأنثى باسم الذكور.
ثم ما ذكر من سجود هذه الأشياء يخرج على وجوه:
أحدها: سجود خلقة، يسجد كل شيء ذكر بخلقته لله، على ما ذكرنا في التسبيح.
والثاني: سجود عبادة، وهو سجود كل ممكن من [إتيانه] وتركه، وهو سجود الممتحن.
والثالث: سجوده: بذل ما بذل في هذه الأشياء من المنافع لا يتأتى بذلها لأحد من الماء، والشمس، والشجر، والدواب، وكل شيء.
والرابع: ما ألهم هذه الأشياء من الطاعة لله والخضوع له؛ ألا ترى أنه قال:
{ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11] ألا ترى أنه ألهم الدواب معرفة إتيان الصالح لهم واتقاء المهالك؛ فجائز أن يعرفن طاعته والخضوع له، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } في الجنة { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: من خذله الله وطرده عن عبادته وبابه { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ }، كقوله:
{ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد: 33].
أو أن يقول: ومن أهانه الله في النار بالعذاب، فما له من منجٍ ينجيه عن ذلك.
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: شاء أشياء فلم يفعل، فهو يقول: { يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }.
وقوله: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } اختلفوا في تأويله:
قال بعضهم: نزل هذا في ستة نفر تبارزوا: ثلاثة من المسلمين: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وثلاثة من المشركين: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فذلك اختصامهم.
وقال بعضهم: أهل الإسلام وأهل الكتاب في الدين: قالت اليهود والنصارى: نحن أولى بالله منكم يا معشر المسلمين؛ لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون: بل نحن أولى بالله، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبيّنا ونبيكم، وبكل كتاب أنزله الله، ثم كفرتم أنتم بنبينا، وكتابنا، وبكل نبيّ كان قبل نبيكم؛ فأنزل الله تعالى ما فصل بين المؤمنين وأهل الكتاب فقال: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بمحمد وبالقرآن، وهم اليهود والنصارى، { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ... } إلى آخر ما ذكر، وقال في المؤمنين: { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ... } الآية.
وقال بعضهم: { هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ }: النار والجنة: قالت النار: جعلني الله للعقوبة للعصاة والفسقة، وقالت الجنة: جعلني الله للرحمة للأنبياء والأولياء، ونحوه. لكن متى يكون للنار مخاصمة، وكذلك الجنة، وهو بعيد.
وقال بعضهم: اختصم المسلم والكافر في البعث.
وجائز أن يكون اختصامهم ما ذكر من أوّل السورة إلى هذا الموضع، من ذلك قوله:
{ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الحج: 8] وقوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [الحج: 11] وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ } [الحج: 17] يكون اختصامهم بين هؤلاء الذين ذكرهم في هذه السورة، وهم أهل الإسلام وأهل الكفر؛ في الآية بيان ذلك، حيث قال: { فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ }، وقال في المؤمنين: { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الحج: 14].
ثم جائز أن يكون هذا الذي ذكر في الآية الأولى، حيث قال:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ } [الحج: 17]: ينزل أهل الإسلام في الجنّة وأهل الكفر في النّار، والله أعلم.
وقوله: { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } كقوله:
{ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ... } الآية [إبراهيم: 50].
وقوله: { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ } قيل: الحميم: الماء الحار الذي انتهى حرّه غايته.
وقوله: { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ }:
قال القتبي: يصهر: يذاب، يقال: صهرت النار الشحمة، والصهارة: ما أذيب من الألية، وكذلك قال: الصّهارة: ما يبقى من الشحم والألية إذا أذيبا، يقال: صهرت الشحم: أي: أذبت، أصهره صهراً.
{ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال بعضهم: المقامع: الأعمدة من الحديد، وهو قول أبي معاذ.
وقال بعضهم: المقامع: شبه العصى، الواحدة: مقمعة.
قال أبو معاذ: يعني قوله: { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } أي: يذاب ما في بطونهم خاصّة، وأمّا الجلود فإنّها تحرق؛ لأن الجلد لا يصهر و لا ينصهر، وقال: هذا مثل قول العرب: (أتيته فأطعمني والله ثريداً، والله ولبنا قارصا - أي: حامضاً - والله فإزاراً ورداءً، والله وحملانا فارها) تضمر لكل شيء فعلا يشاكله، وفي القرآن مثله كثير، وكذلك في اللسان.
وقوله - عز وجل -: { كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا }: قال بعضهم: إن جهنم إذا جاشت، ألقت من فيها إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فيعيدهم الخزّان فيها بالمقامع، ويقول لهم الخزنة: { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ }.
وقال بعضهم: إن في جهنم دركات، فإذا اشتد العذاب بهم ينقلبون من دركة السفلى إلى دركة العليا، ويصعدون، ثم يريدون الخروج منها، فيعادون فيها، كقوله:
{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [المدثر: 17].
وقال بعضهم: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع من حديد، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفر لهبها، والله أعلم بذلك.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }، أي: من تحت أهلها، وهو كما ذكر في آية أخرى: { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }.
وقوله: { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } ذكر هذا - والله أعلم - لقوم رغبوا في هذه الدنيا بالتحلي بما ذكر، وتفاخروا به فيها، وهو ما ذكر:
{ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [الزخرف: 53] وإلا قلما يرغب الناس في الدنيا في التحلي بما ذكر إلا النساء خاصّة.
فإمّا أن ذكر للنساء أو لقوم تفاخروا به في الدنيا فوعد لهم في الآخرة ذلك
{ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلأَنْفُسُ وَتَلَذُّ ٱلأَعْيُنُ } [الزخرف: 71].
وقوله: { وَلُؤْلُؤاً } قال الكسائي: من قرأ: (لُؤْلُؤٍ) بالخفض فهو يخرج على أنهم: يحلون فيها من أساور من ذهب، ويحلون فيها من لؤلؤ حلية سوى الأساور.
ومن قرأ بالنصب: { وَلُؤْلُؤاً }، أي: يحلون فيها لؤلؤاً.
وقوله - عز وجل -: { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }، وكذلك ذكر في الخبر: "هُوَ لَهُم فِي الدنيا، ولنا في الآخرة".
وقوله - عز وجل -: { وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }.
جائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو قول التوحيد، وشهادة الإخلاص، وأمّا في الآخرة كقوله:
{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10] فهو القول الطيب الذي هدوا إليه.
وقال بعضهم: قوله: { وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ }: هو القرآن { وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }: الإسلام وشرائعه.
وقال قتادة: ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس.
وقال: { ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ }: هو كل قول حسن.
وقوله: { ٱلْحَمِيدِ } يحتمل { صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ }، أي: صراط الله، كقوله:
{ صِرَاطِ ٱللَّهِ } [الشورى: 53].
ويحتمل أن يكون نعت ذلك الصراط، أي: صراط حميد، والله أعلم.