التفاسير

< >
عرض

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ
٥٤
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ
٥٥
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ
٥٦
-المؤمنون

تأويلات أهل السنة

[قوله:] { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ }، وقال في آية أخرى: { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } [الزخرف: 83]، وقال: { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام: 110]، فذلك يحتمل وجوهاً:
أحدها: قال ذلك عند الإياس عن إجابتهم لما علم أنهم لا يؤمنون، وذلك في قوم مخصوصين؛ كأنه قال: ذر هؤلاء، وأقبل [على] هؤلاء الذين يقبلون أمرك، ويجيبون دعاءك ويسمعونه.
والثاني: فذرهم في غمرتهم، ولا تكافئهم حتى أنا أكافئهم؛ كقوله:
{ فَذَرْهُمْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور: 45].
والثالث: أمره أن يعرض عنهم؛ لئلا يخوضوا في سب الله والطعن في الآية، كقوله:
{ وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا... } الآية [الأنعام: 68].
وقوله: { حَتَّىٰ حِينٍ }: يحتمل القيامة، ويحتمل وقتاً آخر لم يبين، والله أعلم.
قال أبو عوسجة: قوله: { إِلَىٰ رَبْوَةٍ }: المكان المرتفع، و (آويته)، أي: أويته.
وقال القتبي: الربوة، الارتفاع، وكل شيء ارتفع أو زاد فقد ربا، ومنه الربا في البيع.
قال أبو معاذ: للعرب في الربوة أربع لغات: رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة.
وقوله: { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ }، قال أبو عوسجة: المعين: الماء الظاهر الجاري، والقرار: الثبات، وتقول منه: يقرأ قرارا فهو قار، وأقررته، أي: أثبته، وكذلك قال القتبي، وقال: معين ماء ظاهر، وهو مفعول من العين: كان أصله (معيون)؛ كما يقال: ثوب مخيط، وبُرّ مكيل.
وقوله: { فِي غَمْرَتِهِمْ }، قيل: في ضلالتهم [و] غفلتهم.
وقال [بعضهم]: الغمر: الماء الكثير، وغمرة الحرب وسطها، [و] غمرة الموت: شدته، [و] رجل غمر، أي: سخي، ليس به شح، وجمعه: غمار، ويقال: غمره الماء، أي: صار فوقه. قال [بعضهم]: والغمر: عداوة، والغمر: الذي لم يجرب الأمور، وقوم أغمار، والغمر: الوسم، والغمرة: الشدة، والغمرات جمع، والغمر: القدح الصغير، والمغامرة: المخاطرة، تقول: غامر بنفسه، أي: خاطر بها.
وقوله: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }.
حسب أولئك الكفرة أن ما أمدّ لهم من الأموال والبنين - ما أعطى لهم - إنما أعطى خيراً لهم وبرّاً لا شرّاً، فأخبر - عز وجل - وكذبهم في حسبانهم الذي حسبوا، فقال: { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أنه إنما أعطى لهم ذلك شرّا، وإنما مثل ما حسب أولئك الكفرة فيما أعطوا من الأموال والبنين إنما أعطوا خيراً - حسب المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين؛ فأخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح لهم، وهو ما ذكر في قوله:
{ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [آل عمران: 187]، وهم يقولون: إنما يملي لهم ليزدادوا خيراً وبرّاً.
وكذلك قالوا في قوله:
{ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَٰلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } [التوبة: 55]، وهم يقولون: لا؛ بل إنما أراد: ليرحمهم بها.
فيقال لهم: أنتم أعلم أم الله؟! كما قال لأولئك الكفرة؟! حيث قال:
{ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ } [البقرة: 140] إلا أن يكابروا في قوله: { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }؛ لما أنهم قالوا ذلك على الظن والحسبان، لا على العلم؛ حيث قال: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ }؛ فقال: { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ }؛ حيث قالوا ذلك ظنّاً وحسباناً، وإنما الواجب عليهم أن يعلموا ذلك علم إحاطة ويقين.
فجواب هذا أن يقال: إن عندهم أن ذلك إنما أعطى لهم وأملى خيراً وبرا لهم؛ فكانوا على يقين من ذلك وإحاطة عند أنفسهم، وإنما ذلك الظن والحسبان لهم ما عند الله، وإلا: كانوا على حقيقة العلم عند أنفسهم: أنه إنما أعطاهم ذلك وأمدّ لهم خيراً؛ فأكذبهم الله في ذلك وردّ عليهم قولهم: إنه إنما أعطاهم ذلك لما ذكروا؛ بل أخبر أنه إنما أعطاهم؛ لمضادة ذلك.