التفاسير

< >
عرض

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
٩٣
رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٩٤
وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
٩٥
ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
٩٦
وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ
٩٧
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
٩٨
-المؤمنون

تأويلات أهل السنة

قوله: { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }.
وقوله: { رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ }: يحتمل على وجهين:
أحدهما: { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }؛ لأنه كان وعد له أن يريه بعض ما وعد لهم بقوله:
{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } [غافر: 77]؛ فلا نريك شيئاً؛ فقال: ربّ إن أريتني ما يوعدون أو لا تريني فلا تجعلني في القوم الظالمين.
والثاني: أنك، وإن أريتني ما تعدهم على التحقيق، فلا تجعلني في القوم الظالمين.
ثم يحتمل قوله: { فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } وجهين:
أحدهما: لا تجعلني في القوم الظالمين: في العذاب الذي وعدت لهم أن ينزل؛ لأنه من العدل أن يعذبه ويعامله معاملة أهل العدل؛ كأنه يقول: ربّ لا تعاملني معاملتك إياهم، وإن كان ذلك من العدل أن تعاملني مثل ما تعامل أولئك؛ لأن رسول الله، وإن لم يكن [له] زلات ظاهرة، فلقد كان من الله إليه من النعم والإحسان: ما لو أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل؛ ألا ترى أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يدخلُ أحدٌ الجنةَ إلا برحمةِ اللهِ؛ فقيلَ: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ: ولا أنا إلا أَنْ يتغمدني اللهُ برحمتِهِ" .
ويحتمل قوله: { فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ }: في الزيغ والغواية، يسأل ربّه أن يعصمه عن الزيغ بالضلال والغواية الذي عليه القوم الظالمون، وهو كدعاء إبراهيم ربّه وسؤال العصمة عن الزيغ بقوله: { رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ ءَامِناً وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [إبراهيم: 35]، وإن كان وعد لهم العصمة عن ذلك، والله أعلم.
وقوله: { وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ }.
هذا أيضاً يحتمل وجهين:
أحدهما: يخبر رسوله أنه ليس لعجز يؤخر ما وعد لهم من العذاب؛ ولكن لحلم منه وعفو، وهو كقوله - عز وجل -:
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ } [إبراهيم: 42]: على التنبيه والإيقاظ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا.
والثاني: يعزي رسول الله ويصبره على أذاهم إياه، يقول: إني مع قدرتي على إنزال العذاب عليهم والانتقام منهم أحلم عنهم وأؤخر عنهم؛ فأنت من ضعفك عن ذلك أولى أن تصبر على أذاهم، وعلى هذا يخرج قوله: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ }، أي: لا تكافئهم لأذاهم إياك، ولا تشغل بهم بمجازاة ذلك [وادفع] بأحسن [من] ذلك وكِلْ مكافأتهم إليَّ حتى أنا أكافئهم.
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } من الكذب والأذى الذي يؤذونك.
والثاني: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ }، أي: ادفع سيئاتهم المتقدمة بإحسان يكون منك إليهم؛ ليكونوا لك أولياء وإخوانا في حادث الأوقات، وهو كقوله:
{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [فصلت: 34].
وقوله: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ }، وقال في آية أخرى:
{ وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [الأعراف: 200] علم رسوله وأمره أن يتعوذ به من الشيطان الرجيم اللعين إذا نزغه - ونزغه: وسوسته - وأمره أيضاً أن يتعوذ من همزه، وهو: همه وقصده بذلك، وأمره أن يتعوذ بحضورهم مكان الوسوسة؛ حتى يدفع عنهم ولا يحضرون ذلك المكان، وكأن التعوذ عن نزغهم؛ ليدفع عنه؛ لئلا يؤثروا في نفسه بعد ما حضروه ووسوسوه.
والتعوذ عن همزهم: هو أن يدفع عنه طعنهم ونخسهم؛ لئلا يشغلوه بالذي قصدوه به، والتعوذ عن حضورهم مكان الوسوسة.
قال الحسن: همز الشيطان: الموتة، والموتة: غشيان القلب، روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ من الشيطان الرجيم، قال:
"في همزه، ونفخه، ونفثه" .
وقال بعضهم: همزاته ونزغاته: واحد.
وقال القتبي: همزات الشياطين: نخسها وطعنها، ومنه قيل للعائب: هُمَزة؛ كأنه يطعن ويعيب.
[و] قال أبو عوسجة: همزات الشياطين: وساوسهم، يقال: همز يهمز همزاً، أي: وسوس، ومن وجه آخر: همز يهمز همزاً، أي: عاب يعيب، ومنه قوله:
{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [الهمزة: 1].
ثم في قوله: { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } إلى آخر ما ذكر وجهان على المعتزلة:
أحدهما: أنه أمر رسوله أن يتعوذ به مما ذكر؛ فدل أن عنده لطفاً لم يعطه: ما لو أعطاه الله لدفع به ما ذكر وأنه مالكٌ لذلك؛ إذ لو كان غيره مالكاً لذلك يخرج السؤال به مخرج الهزء به؛ إذ من طلب من آخر شيئاً يعلم أنه ليس عنده ذلك خرج ذلك الطلب مخرج الهزء به؛ فعلى ذلك هذا.
والثاني: أن كل مأمور بالتعوذ جعل الله له [الإعاذة مما يتعوذ منه].
فالوجهان جميعاً ينقضان على المعتزلة في قولهم: إن الله قد أعطى كلا الأصلح في الدين، وأعطى كلا العصمة عن كل زيغ وضلال.