التفاسير

< >
عرض

وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٣٢
وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٣
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٣٤
-النور

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } الأمر بالإنكاح وإن خرج مخرج أمر واحد في الظاهر فهو في الحقيقة على أقسام:
الأمر في تزويج الإماء والعبيد يخرج مخرج الترغيب والتحريض.
وفي الأحرار يخرج مخرج المعونة والتقوية؛ لأن من بلغ ولده النكاح ذكراً أو أنثى استثار أقرباءه، وأهل أنسابه، والمتصلين به في ذلك، واستعانهم على ذلك، ولا كذلك السادات في المماليك؛ دل أن الأمر في أحدهما يخرج على المعونة، وفي الآخر على الترغيب.
ثم تزويج العبد يخرج كأنه فعل المعروف؛ إذ في ذلك إلزام مؤن بلا عوض يحصل له؛ ألا ترى أنه لا يملكه إلا من يملك المعروف من نحو الوصي والأب والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة؟ ولا كذلك تزويج الإماء؛ إذ يملك هؤلاء ذلك، وكل مكتسب خير له لنفسه أو لغيره.
ثم جرى الوفاق بينهم: أن للولي أن يزوج أمته شاءت هي أو أبت، واختلفوا في تزويج العبد امرأة:
قال بعضهم: [ليس] له ذلك إلا برضاء العبد.
وقال بعضهم: له ذلك شاء أو أبى.
ثم الناس اختلفوا في قوله: { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } قال بعضهم: الأيامى منهن: الإناث من الأحرار دون الذكور، واستدلوا ببطلان النكاح وفساده إذا كان بغير إذن الولي بهذه الآية؛ لأن الله تعالى أمر الأولياء وخاطبهم أن يزوجوهن؛ كما أمر المولى بتزويج أمته، فأوجب للمولى الولاية كما أوجبها للولي وإن كانا مختلفين في الولاية.
لكن عندنا لو كانت الآية خرجت على التفسير على ما يقول خصومنا { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ } الإناث - لم يكن فيه دليل على ما قالوا هم، ويخرج ذلك على وجوه:
أحدها: على الترغيب في إنكاحهن لما [لا] يتولى هن النكاح بأنفسهن حياء، ويستحيين التكلم بذلك حتى من فعلت ذلك منهم بنفسها صارت مطعونة عندهن.
أو أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهن على ما ذكرنا؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنه من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فأحدث، فالإثم بينهما" ، فهذا يدل - والله أعلم - على وجه المعونة في تزويج الأب الابن البالغ، فإذا كان الأب مأموراً من جهة التأديب على المعونة بتزويج ابنه، ولا يوجب ذلك عليه ولاية إذا كره ذلك؛ فكذلك يكون مأموراً بتزويج ابنه من طريق المعونة، أو جهة الحياء، أو أن يخرج ذلك على ما قال خصومنا من إيجاب الولاية له عليها.
ثم رأينا أنها إذا رغبت في النكاح ورضيت به وكره وليها ذلك، جبر الولي على الإنكاح، وإن هي كرهت النكاح وأبت، ورغب الولي في ذلك وشاء، لم تجبر هي على ذلك؛ دل ذلك على أن الحق لها عليه دون أن يكون الحق في ذلك له عليها، فإذا كان الحق لها عليه جاز ذلك إذا تولت بنفسها؛ لما ذكرنا أن الخطاب للأولياء يخرج على الوجوه التي ذكرنا، والله أعلم.
هذا إذا كان في الآية ذكر الإناث دون الذكور، فكيف أن ليس في الآية ذكر تخصيص الإناث دون الذكور، واسم "الأيم" يقع على الإناث والذكور جميعاً؛ ألا ترى أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - قال:
"لما نزلت هذه الآية ما رأيت مثل ما يلتمس بعد هذه الآية إنما التمسوا الغناء في الباءة" .
وما روي عن نجدة: أن عمر دعانا إلى أن ينكح من أيمنا وفي الشعر:

لله در بني على أيم منهم وناكح

وفي بعضها:

وأيم تأبى من القوم إيماه.

جمع فيها اسم "الأيم": الرجال والنساء.
ومن الدليل - أيضاً - على ذلك قوله: { وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } فدل ذلك على أنه حث على تزويج البالغين من الأحرار رجالهم ونسائهم.
فإن قيل: فما وجه أمره بتزويج الرجال والأمر إليهم؟
فجواب ذلك ما ذكرنا من المعونة، والترغيب فيه.
ثم قوله: { وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } جائز أن يكون قوله: { وَٱلصَّالِحِينَ } أي: المؤمنين.
وجائز أن يكون الصالحين: من طلب منكم الصلاح والعفة.
أو ذكر الصالحين لما كانت العادة في الملوك أنهم يخاطبون أهل الصلاح منهم والأخيار، لا على إخراج غيرهم من حكم ذلك الخطاب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } من الناس من استدل بهذه الآية [على] أن العبد يملك؛ لأنه ذكر العبيد والأحرار جميعاً، ثم ذكر في آخره الغناء دل أنه يملك.
ويستدل بقوله:
{ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء: 25] أضاف الأجور والإيتاء إليهن؛ دل أنهن يملكن، لكن عندنا أن المماليك يملكون ملك التوسيع، وملك التصرف، ويقع لهم غناء التوسيع وغناء التصرف، ولا يقع لهم التمليك، ولا حقيقة الملك، والدلالة على ذلك قوله: { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [النحل: 71] لو كان ما ملكت أيمانهم يملكون ما يملك الموالي والسادات لكان المماليك يفضلون على السادات، في الملك؛ إذ هم الذين يتصرفون ويكتسبون الأموال دون السادات، فدل ذكر تفضيل بعض على بعض أنهم لا يملكون ما يملك الموالي.
والثاني قوله:
{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ... } الآية [الزمر: 29]، ولو كانوا يملكون على ما يملك السادات، لكانوا لهم فيه شركاء، دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك، ولكن يملكون ملك التوسيع والتصرف.
أو أن يكون قوله: { يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } راجعاً إلى الأحرار منهم دون المماليك، وذلك جائز في اللسان كقوله: [ ] ثم روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ثلاثة حق على الله تعالى أن يغنيهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء" .
وعن عمر قال: "ما رأيت مثل الرجل لا يلتمس الغناء في الباءة" والله تعالى يقول: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }.
وروي في الخبر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" ، وروي في الخبر "عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: ما فعلت ببناتك؟ قال: هن عندي يا رسول الله. قال: وقد حضن؟ قال: نعم. قال: إنك لم تحبس واحدة منهن عن كفؤ إلا نقص من أجرك كل يوم قيراط" ، وفي بعض الأخبار: "من بلغ ولده النكاح، وعنده ما ينكحه، فأحدث فالإثم بينهما" .
وقوله: { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } الاستعفاف: هو طلب العفاف؛ كأنه قال: يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنا، وتصيره عفيفاً حتى يغنيه الله من فضله، وأسباب العفة تكون أشياء:
أحدها: ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم:
"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" ونحوه، يطلب أسباب العفة إن لم يكن عنده ما ينكح حتى لا يقع في الزنا إلى أن أغناه الله، كقوله عليه السلام: "من استعف أعفه الله" .
وجائز أن يكون قوله: { وَلْيَسْتَعْفِفِ } أي: يتعفف الذين لا يجدون نكاحاً، لم يجعل الله - عز وجل - للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج والاستمتاع بها زنا إذا لم يكن عنده ما ينكح، كما جعل في الأموال وغيرها - رخصة التناول في ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل؛ لوجوه:
أن رخصة التناول في ملك غيره إنما تكون عند الضرورة، والضرورات لا تقع في الفروج، وفي الاستمتاع بها بحال؛ لذلك لم تبح.
والثاني: الاستمتاع بالنساء في الأصل كأنه إنما جعل وأبيح لبقاء النسل والتوالد، لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة، فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد.
والثالث: أن السعة والغناء وأنواع النعم هي الداعية إلى الحاجة، وقضاء الشهوة، فإذا كان فقيراً لا يجد ما ينكح زال عنه الأسباب التي تدعو إلى ذلك؛ لذلك لم يبح، وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا كلها تقع في الأموال، وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم ولإبقائها؛ لذلك افترقا، والله أعلم.
ثم في قوله: { حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }، وقوله: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة:
أحدهما: أنه أضاف الإغناء إلى نفسه، وهو ليس يعطي أحداً شيئا يطرحه ويلقيه في يده بلا سبب، ولكن إنما يغنيه ويعطيه بأسباب تجعل لهم؛ فدل إضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي فيها لهم غناء صنعاً وفعلا، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا صنع لله في أفعال عباده.
والثاني: فيه دلالة: أن غناهم وسعتهم فضل منه ورحمة لا شيء يستوجبون هم بأنفسهم ذلك قبله، لكن إفضالا منه لهم وإحساناً؛ إذ لو كان عليه ذلك كان منه عدلا لا فضلا؛ فدل تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه الله يقال: ذلك أعطاه فضلا منه وإنعاماً لا استيجاباً واستحقاقاً، وذلك رد عليهم في الأصلح في الدين.
ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله: { يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ }: حتى يغنيهم الله من فضله على تفضيل الغناء على الفقر قالوا: لأنه سماه فضلا بقوله: { مِن فَضْلِهِ } وسماه في غير آي من القرآن: رحمة وحسنة، وسماه: خيراً أيضاً في غير موضع، وسمى الفقر والضيق: بلاء مرة، و: سيئة ثانياً، و: ضرّاً و: شدة بقوله:
{ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [الأعراف: 168]، وقال: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء: 35] وقوله: { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } [الزمر: 38] وغير ذلك من الآيات، وكأن ما سمي من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكناية عن الضيق والفقر، وما ذكر من الخير والحسنة والرحمة ونحوه، كله عبارة عن السعة والغناء؛ فدل تسمية الغناء خيراً وحسنة ورحمة على أنه أفضل؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء؛ لذلك كان الغناء أفضل من الفقر.
فيقال لهم: هو كما قلتم: إنها خير مما ذكرتم، إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد، الباعثة على قضاء الحاجات، والشهوات، وأنواع المعاصي في أنواع المحرمات، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة، بل هي أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات؛ فضلا أن تدعوه وتبعثه إلى ذلك، فقولنا: إن أفضل؛ للمعنى الذي ذكرنا، لا لمعنى فهمتموه أنتم.
أو أن يكون ما ذكر وسُمي: خيراً: السعة عند الناس، وكذلك ما ذكر من الضيق شرّاً وسيئة عندهم؛ لأنه كذلك عند الناس لا أنهما في الحقيقة كذلك؛ لما يحتمل أن يكون الغناء والسعة سبب الفساد، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد.
أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر؛ إذ هما محنتان يمتحن بهما العباد: هؤلاء بالصبر على الفقر والضيق، وهؤلاء بشكرهم على الغناء والسعة، فالتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل، والله أعلم.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ }: ظاهر هذا ليس على الكناية، ولكن على الكتاب المعروف وهو كتاب الله - تعالى - لأن الكتاب المطلق هو كتاب الله تعالى، يسألون ساداتهم تعليم الكتاب لهم، إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حيث صرفوا الآية إليها.
ثم قوله: { فَكَاتِبُوهُمْ } ليس على الوجوب والإلزام، ولكن على الترغيب فيها والحث؛ دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم دون مكاتبتهم من لدن رسول الله إلى يومنا هذا، ولو كان على الوجوب واللزوم لم يكونوا يتركون لازماً واجباً عليهم؛ فدل تركهم المكاتبة على أنه خرج مخرج الترغيب عليها، والحث لا على الوجوب، والله أعلم.
وقوله: { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } اختلف فيه:
قال بعضهم: أي: كاتبوهم إن علمتم أنهم يرغبون في أنواع الخير، وإقامة الصلاة، وأنواع الصلاح، وفرغوا أنفسهم لذلك.
قال بعضهم: إن علمتم فيهم خيراً، أي: وفاء وأمانة وصلاحاً، وهو قول الحسن.
وتأويل هذا: أي: كاتبوهم؛ إن علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا، وأداء ذلك.
وقال قائلون: { خَيْراً } أي: حيلة.
وقال قائلون: مالا.
وقال قائلون: { خَيْراً }، أي: حرفة، ورووا في ذلك خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرا عن يحيى بن كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن علمتم فيهم خيراً - أي: حرفة - ولا ترسلوهم كلا على الناس" . إن ثبت هذا لا نحتاج إلى غيره من التفسير، ولو كان قال: إن علمتم لهم خيراً، جاز أن يقال: معنى { خَيْراً } مالاً، ولكنه قال: { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [الجاه الذي] والمال لا يكون فيهم، وإنما يكون لهم؛ فأشبه ذلك - والله أعلم - أن يكون الخير حرفة في الخير أو وفاءه، وأمانته، ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئاً؛ لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ويحثهم على العتاق دون الكتابة، فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى.
وفي الكتابة أيضاً نظر للموالي؛ لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أداءه، وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم، ولو كان عتقاً لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم، ويبطل حقهم بلا شيء يصل إليهم، والله أعلم.
وفي قوله: { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به، حيث قال: { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الحرفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله، وذلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة.
وفيه دلالة العمل بالاجتهاد على ما يرى بهم من ظاهر الأسباب، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } اختلف في خطابه:
قال الحسن وغيره: هو شيء حث الناس عليه مولاه وغيره، فيخرج ذلك على وجهين:
أحدهما: ما جعل الله من الحق للمكاتبين في الصدقات؛ لقوله:
{ إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [التوبة: 60] إلى قوله: { وَفِي ٱلرِّقَابِ } [التوبة: 60] وهم المكاتبون، أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات للمكاتبين، وجعلهم أهلا لها، ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة.
فإن كان ذلك فذلك حق لهم.
والثاني: جائز أن يأمر الناس بمعونة هؤلاء المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات؛ ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب.
وقال قائلون: إنما الخطاب للموالي خاصة؛ لما أن أوّل الخطاب بالكتابة راجع إلى الموالي؛ فعلى ذلك هذا.
ثمّ اختلفوا فيه: روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - قال: "يترك المولي الثلث من مكاتبته له".
وروي عنه أنه قال: "ربع المكاتبة".
وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كاتب غلاماً له، فحطّ عنه أول نجمه، وقال له: حط عني آخره، فقال عمر: "لعلي لا أصل إليه"، أو كلام نحو هذا، ثم تلا هذه الآية، قوله: { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ... } الآية.
وروي عن غلام لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: "كاتبني عثمان، ولم يحطّ عني شيئاً"، دل ما روي عن عثمان أنه لم يحط عنه شيئاً على أن الأمر بالإيتاء للمكاتبين من الأموال والحطّ عنهم إنما هو على الاختيار والإفضال ليس على الوجوب واللزوم؛ لأنه لو كان على الوجوب، لكان عثمان بن عفان لا يحتمل ألا يحط عنه شيئاً.
ومن جعل ذلك واجباً على المولى أن يؤتيه من ماله، ويعجله له كان ذلك خارجاً عما روي عن الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - خلافاً لهم؛ لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم، والوضع دون الإيتاء من ماله.
وروي عن بعضهم: الاستيفاء على الكمال لا حطّ فيه ولا إيتاء؛ دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج عن قولهم جملة.
ثم يبطل ذلك من وجهين:
أحدهما: أن من قال لعبده: "إذا أديت إليَّ كذا فأنت حر"، فحط عنه بعض ذلك، فأدّى البقية - لم يعتق حتى يؤدي الكل؛ فدل أن قوله: { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ } ليس على الوجوب، ولكن على الاختيار.
والثاني: أنه لا يسمى بعد الأداء: مكاتبا، وإنما هو حرّ، وإنما ذكر الإيتاء إياهم وهم مكاتبون حيث قال: { فَكَاتِبُوهُمْ }، ثم قال: { وَآتُوهُمْ }، فلو كان على ما يقوله قوم، لكان ذلك باطلا؛ للوجهين اللذين ذكرناهما، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً }.
ليس قوله: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } بشرط فيه؛ لأنهن لا يكرهن على البغاء وإن لم يردن التحصن، دل أن ذلك ليس بشرط فيه، ولا يمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة: كانوا يكرهونهن على الزنا ابتغاء المال، وهنّ كنّ يردن التحصن، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم، دون أن يكون ذلك شرطاً فيه.
أو أن يكون ذلك إكراهاً إذا كن مطاوعات في ذلك.
وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على أن يؤاجروا أنفسهن للزنا ابتغاء الأجر، وليست المتعة إلا كذلك.
وقال أهل التأويل: إن الآية نزلت في نفر من المنافقين عبد الله بن أبي وفلان وفلان كانوا يكرهون فتياتهم على الزنا ابتغاء عرض الدنيا، فإن كان ما ذكروا، ففيه دلالة أن الزنا حرام في الأديان كلها.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا يحتمل وجهين:
[أحدهما:] يرجع إلى الإماء يقول: فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ: (فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم).
والثاني: يرجع إلى السادات؛ فإن الله لهم غفور رحيم إذا تابوا، وأصلحوا. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } بخفض الياء ونصبها، ثم يحتمل أن يكون المراد بالآيات: آيات القرآن جميعاً، وقوله: { مُّبَيِّنَاتٍ } بالخفض، أي: تبين للخلق ما لهم، وما عليهم، وما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض.
{ مُّبَيِّنَاتٍ } بالنصب، أي: مبينات أنها من عند الله.
وجائز أن يكون المراد بالآيات: الحجج والبراهين، فإن كان هذا، فقوله: { مُّبَيِّنَاتٍ } بالخفض، أي: تبين وحدانية الله - تعالى - وعلم رسالة رسوله و { مُّبَيِّنَاتٍ } بالنصب، أي: واضحات بينات أنها حجج وبراهين.
وقوله: { وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي: أنزلنا إليكم أيضاً مثل الذين خلوا من قبلكم ما حل بهم، ونزل بالمكذبين من العذاب، وموعظة ما يتعظ المتقون، أو جعل لكم فيما أنزل من الآيات عليكم أمثالا من الذين خلوا من قبلكم؛ لتتعظوا به والله أعلم.