التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٣٩
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
٤٠
-النور

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً } جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين:
أحدهما: أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة، وينتفعوا بها من نحو الصدقات، والنفقات، وصلة الأرحام، ونحوه مما هي في الظاهر أعمال الخير، فإذا هم حُرِمُوا أجرها ولم يجدوا شيئاً كالذي يرى السراب من بعيد يحسبه ماء فسار إليه، فإذا هو لا شيء؛ فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى [السراب] فحسبه أنه ماء، فإذا هو سراب.
والثاني: ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر، وذلك أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة؛ كقولهم:
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3] وقولهم: { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] وكانت عبادتهم لما ذكروا من شفاعتهم عند الله ثم لم ينتفعوا فصاروا كالعطشان الذي يرى السراب يحسب أنه ماء؛ فإذا جاءه وجده سراباً؛ لم يجده ماء كما حسبه، إلى هذا تمام المثل.
ثم ابتدأ فقال: { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ } أي: وجد الله يوفيه حساب عمله وجزاءه.
أو يقول: قدم على عمله يوم القيامة لم يجد عمله الذي عمل في الدنيا شيئاً إلا كما وجد هذا العطشان هذا السراب، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، يقول: قدم على الله فوفاه حسابه؛ أي: عمله.
وقال بعضهم: هذا المثل ضرب للكفار؛ وذلك أنهم يبعثون يوم القيامة وقد تقطعت أعناقهم من العطش، فيرفع لهم سراب بقيعة من الأرض؛ فإذا نظروا إليه حسبوه ماء؛ فأتوه ليشربوا منه فلم يجدوا شيئاً، ويؤخذون ثمة فيحاسبون، وكذلك أعمالهم تضمحل يوم القيامة فلا يصيبون منها خيراً.
وقوله: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ }.
هذا مثل آخر ضربه الله لأحوال الكافر؛ أو { كَظُلُمَاتٍ } جسده، شبهه بظلمات؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقاً كان أشدّ لظلمته؛ فقال: والبحر اللجي: قلب الكافر، { يَغْشَاهُ مَوْجٌ }: فوق الماء { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ }: فهو ظلمة الموج، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، هذه ظلمات { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ }، فكذا الكافر قلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، لا يبصر الإيمان كما أن صاحب البحر [إذا] أخرج يده في تلك الظلمة لم يكد يراها؛ أي: لم يرها ألبتة.
أو أن يكون ضرب المثل بظلمات ثلاث بظلمات أحوال لا يزال يزداد ظلمة كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله؛ كالظلمات التي ذكرها؛ فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن؛ حيث قال: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ } والنور جسده وصدره وقلبه.
ثم قوله: { أَوْ كَظُلُمَاتٍ }: ليس هو حرف شك، ولكنه كأنه قال: إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرها فمستقيم، بأيهما ضربت فمستقيم صحيح، لا أنه ذا أو ذا.
ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين: أحدهما: السراب، والثاني: الظلمات. فجائز أن يكون في المؤمن أيضاً مثلين: الظلمة التي ذكر مقابل النور الذي ذكر في المؤمن، والسراب الذي ذكر لأعمالهم مقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين؛ حيث قال: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ... } إلى قوله: { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وقوله: { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }.
قال بعضهم: من لم يجعل الله له إيماناً فما له من إيمان.
وقيل: هدى، فما له من هدى، وهما واحد.
والآية على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: لم يجعل الله للمؤمن من النور إلا وقد جعله مثله للكافر، وفي الآية إخبار أنه لم يجعل للكافر النور؛ إذ لو كان جعل للكافر كما جعل للمؤمن لم يكن لقوله: { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } - معنى؛ دل أنه لم يجعل للكافر النور.
وقوله: { فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ } يقول: فجازاه بعمله فلم يظلمه.
وقوله: { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } قد ذكرناه في غير موضع.
قال القتبي: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل: ما رأيته في أوّل النهار وآخره؛ الذي يرفع كل شيء، والقيعة: القاع.
وقال أبو عوسجة: السراب الذي يثيره الحرّ فتراه كأنه ماء يجري وهو الذي يكون نصف النهار إلى السماء، والآل في أوّل النهار إلى قريب من نصف النهار، والقيعة: القاع؛ وهي الأرض اليابسة الطيبة التي يستنقع فيها الماء، وقاع واحد، وقيعان جمع، والظمآن: العطشان، وقوم ظِمَاء، وامرأة ظمأى، ونسوة ظماء، وأظمأته: أعطشته، وظمأته أيضاً.
{ بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } اللجي: الكثير الماء، واللجة: وسط البحر { يَغْشَاهُ مَوْجٌ }؛ أي: يصير فوقه، قال: الموج طرائق في الماء تكون إذا هبت الريح.
وقال الكسائي: الظمآن والصديان والعطشان واحد، قيل: والسراب: الزوال، والآل: بعد الزوال؛ وهو أرفع من السراب، والرواق بعد العصر.
وقال بعضهم في قوله: { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا }: يقول: لم يقاربه البصر؛ كقوله: الرجل لم يصب ولم يقارب.