التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٦
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥١
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون
٥٢
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
-النور

تأويلات أهل السنة

قوله: { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ... } الآية؛ قد ذكرناه.
وقوله: { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } اختلف فيه:
قال بعض أهل التأويل - ابن عباس وغيره -: إنه وقعت بين علي بن أبي طالب وبين عثمان - رضي الله عنه - خصومة في أرض اشتراها عثمان من علي، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك، فقضى لعلي على عثمان، وألزمه الأرض، فقال قوم لعثمان: إنه ابن عمه وأكرم عليه فقضى عليك له، أو نحو هذا من الكلام، فنزل في قوم عثمان ذلك ... إلى آخر ما ذكر.
لكن هذا بعيد؛ إذ لا يحتمل أن يكون عثمان أو قومه يخطر ببالهم في رسول الله ما ذكر.
وقال بعضهم: نزل هذا في بشر المنافق، وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر خصومة، وأن اليهودي دعا بشراً إلى رسول الله، ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف، فقال: إن محمداً يحيف علينا، أو نحوه من الكلام؛ فنزل هذا؛ لكنا لا نعلم أنه فيمن نزل سوى أن فيه بياناً أنها إنما نزلت في المنافقين.
وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول الله لا يقضي إلا بالحق؛ ألا ترى أنه ذكر في آخره: { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } مسرعين مطيعين، ولو كان عندهم أنه يقضي بالجور لكانوا لا يأتونه للقضاء، وإن كان الحق لهم مخافة الجور والظلم عليهم، لكن ما ذكر في سياق هذا يمنع هذا التأويل.
وقوله: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } في هذا من الدلالة أن عندهم أنه لا يقضي بالحق لهم، وأنه يجور؛ حيث قال: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } إن كان على هذا الوصف فهو يخاف جوره وحيفه، إلا أن تجعل الآية في فرق من المنافقين: فرقة منهم عرفوا أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم كان في قلوبهم مرض، وفرقة ارتابوا، وفرقة خافوا جوره، وهم كانوا فرقاً؛ ألا ترى أنه قال:
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } [التوبة: 75] ومنهم من قال: كذا، ومنهم من قال: كذا.
أو أن يكون تأويل قوله: { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } أي: وإن يكن لهم القضاء بالحق أتوه مذعنين؛ أي: إذا عرفوا أنه يقضي لهم لا محالة أتوه، وإلا لا يأتونه، فإن كان على هذا، فما ذكر على سياقه من المرض والارتياب والخوف في الحيف فمستقيم.
على هذين الوجهين يحتمل أن يخرج تأويل الآية، وأما على غير ذلك فإنا لا نعلم، والله أعلم.
وقوله: { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ }؛ لأن من ارتاب، أو شك في رسالته، أو خاف جوره وحيفه فهو كافر، ليس بمؤمن.
وفي قوله: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ } يخرج على وجهين وإن كان ظاهره حرف شك:
أحدهما: على الإيجاب والتحقيق، أي: في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا على ما ذكرنا في حرف الاستفهام أنه في الظاهر، وإن كان استفهاماً فهو في التحقيق علم وإيجاب؛ أي: قد علمت ورأيت ونحوه؛ لما لا يجوز الاستفهام منه، فعلى ذلك هذا.
والثاني: ما ذكرنا أنه في فرق: فرقة عرفت أنه لا يقضي إلا بالحق، وفرقة منهم ارتابت، وفرقة منهم خافت جوره وظلمه.
قال القتبي: قوله: { مُذْعِنِينَ } أي: خاضعين.
وقال أبو عوسجة: مسرعين، مطيعين؛ يقال: ناقة مذعان: أي سريعة، ونوق مذاعين، والحيف: الجور، حاف يحيف حيفاً فهو حائف.
وقوله: { إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } قوله: { دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } يحتمل إضافة الدعاء إلى الله وجهين:
أحدهما: دعوا إلى كتاب الله وإلى رسوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ }، كقوله:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [النساء: 61].
والثاني: إضافته إلى الله هي إضافة إلى رسوله، كقوله:
{ مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [النساء: 80] جعل طاعة الرسول طاعة لله؛ فعلى ذلك جائز أن يراد بإضافة الدعاء إلى الله دعاء إلى رسول الله، وعلى ذلك يخرج قوله: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } لا يحتمل أن يكونوا يخافون حيف الله وجوره، لكن إنما يخافون جور رسوله أو كتابه، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } قد ذكرنا إضافة الدعاء إلى الله في قصّة المنافقين ونعتهم، فعلى ذلك في نعت المؤمنين.
وقوله: { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } يحتمل قوله: { سَمِعْنَا } أي: سمعنا الدعاء وأطعنا الأمر.
ويحتمل: سمعنا: أجبنا وأطعنا الأمر.
وجائز أن يكون قوله: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ليس على حقيقة القول منهم والنطق به، ولكن إخبار من الله - تعالى - عما هم عليه واعتقدوا به؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل اعتقاده طاعة الله وطاعة رسوله، فيكون كما ذكر في آية أخرى:
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [الإنسان: 9] هذا أخبار عما أطعموهم، ليس أنهم قالوا باللسان: إنما نطعمكم لكذا، ولكن إخبار عما في قلوبهم، فعلى ذلك الأوّل.
وقوله: { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } المفلح هو الذي يظفر بحاجته دنيوية وأخروية؛ يقال: فلان أفلح: أي: ظفر بحاجته، والله أعلم.
وقوله: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ } يحتمل قوله: { وَيَخْشَ ٱللَّهَ } أي: يخشى الله على ما مضى من ذنوبه ويتقيه فيما بقي من عمره.
أو يخشى الله على ما يكون منه من التقصير والتفريط ويتقي ذلك وكل معصية الله ومخالفته { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون } وفي حرف ابن مسعود وأبيّ وحفصة (فأولئك هم المؤمنون) فهما واحد.
وقوله: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } قال بعضهم: كل يمين بالله فهي جهد اليمين؛ لأنهم من عاداتهم أنهم كانوا لا يحلفون بالله إلا في العظيم من الأمر والخطير، فأمّا الأمر الدون فإنما يحلفون بغيره، فيكون على هذا كل يمين بالله فهو جهد اليمين.
ويحتمل أن يكونوا حلفوا بيمين غليظة شديدة على ما يغلظ الناس في أيمانهم ربّما، فسمي ذلك جهد اليمين.
أو أن يكون جهد اليمين ما ذكر على أثره، وهو قوله: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } قوله: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } هو جهد أيمانهم، والله أعلم.
وقوله: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } قوله: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ } يحتمل وجوهاً:
لئن أمرتهم ليخرجن من أرضهم التي تخاصموا إليه فيها؛ أي: ليخرجن ويسلمونها إلى خصمهم.
ويحتمل: لئن أمرتهم { لَيَخْرُجُنَّ } من جميع أملاكهم وما تحويه أيديهم، تعظيماً لأمرك وإجلالا، فكيف لا يتبعون لقضائك وينقادون لحكمك.
وجائز أن يكون قوله: { لَيَخْرُجُنَّ } من المدينة بعيالاتهم وجميع حواشيهم إلى بلدة أخرى.
وقال بعضهم: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } أي: أمرتهم أن يخرجوا في الجهاد ليخرجن؛ لأنهم كانوا يتخلّفون.
ثم أمر رسوله أن ينهاهم عن القسم الذي أقسموا فقال: { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } اختلف فيه:
قال بعضهم: لا تقسموا؛ فإن الله لو بلغ منكم الجهد لهم تبلغوه، ثم قال: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يقول: أطيعوه وقولوا له المعروف.
وقال بعضهم: قوله: { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } تم الكلام، ثم قال: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ }.
وفي هذا الكلام حذف؛ للإيجاز يستدل بظاهره عليه؛ كأن القوم كانوا ينافقون ويحلفون في الظاهر على ما يضمرون خلافه، فقيل لهم: لا تقسموا هي طاعة معروفة صحيحة لا نفاق فيها، لا طاعة فيها نفاق.
وقال بعضهم: لا تحلفوا، ولتكن هذه منكم للنبيّ طاعة معروفة حسنة.
وقال بعضهم: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يقول: طاعة يعرف أنها طاعة بالقول والعمل، لا تكونوا كاذبين فيها بالقول دون العمل، وبعضه قريب من بعض: { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فلا تقسموا.
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنهم كانوا يسرون ويضمرون فيما بينهم التولي والإعراض عن حكمه، ثم أخبرهم بذلك؛ فعلموا أنه بالله عرف ذلك.
وقوله: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي: فإن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } قال: فإنما على النبي ما أمر بتبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم وأمرتم من الطاعة لله ورسوله.
ويحتمل: فأنما عليه أداء ما حمل من الفرائض، وعليكم أداء ما حملتم وأمرتم من الفرائض.
وجائز أن يكون قوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي: لا يسأل هو، ولا يؤاخذ بما عليكم، ولا تسألون أنتم ولا تؤاخذون - أيضاً - بما عليه؛ إنما يسأل كل عما عليه؛ كقوله:
{ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } [الأنعام: 52] والله أعلم.
وقوله: { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } لا شك أنهم إن أطاعوه اهتدوا { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } ظاهر.