التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً
٥٠
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً
٥١
فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
٥٢
-الفرقان

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ }، أي: صرفنا المطر والسحاب بينهم يمطر في مكان، ويسوق السحاب إلى مكان ولا يسوق إلى مكان آخر؛ كقوله: { وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ... } الآية [البقرة: 164]؛ وكقوله: { فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ } الآية [فاطر: 9].
يذكرهم في هذه الآيات من قوله:
{ { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [الفرقان: 45] إلى قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } ليذكروا تدبيره وقدرته وحكمته ونعمه؛ أما تدبيره: حيث ترى السحاب في موضع ولا تراه في موضع، وتراه منبسطاً في الآفاق ثم يمطر في موضع آخر، ولا يرسل في مكان ويرسل في مكان آخر؛ ليعلم أنه عن تدبير كان هكذا لا بالطبع؛ لأنه لو كان بالطبع كان ذلك لكان لا جائز أن يمطر في مكان ويترك في مكان آخر، دل أنه بالتدبير كان ما كان وبالأمر.
وأما قدرته: فما ذكر من إحياء الأرض الميتة بعد موتها، وإماتتها بعد حياتها مما يعلم كل أحد حياتها وموتها، ويقر بذلك، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى بعد الموت، ولا يعجزه شيء.
وأما حكمته: أن ما خلق مما ذكر وأنشأه لم ينشئه عبثاً، يمهلهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يمتحنهم بشيء، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون، ولا يستأدي بهم شكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم مما يعجز عقولهم عن إدراكه، ويقصر أفهامهم عن تقدير مثله؛ ليعلم أنه قادر بذاته لا يعجزه شيء.
ثم قال: { فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } قال الكسائي: الكُفور برفع الكاف: الكفر، والكَفور - بفتح الكاف -: الكافر، والشُّكور - بضم الشين -: الشكر، والشَّكور - بفتح الشين -: الشاكر وهو المؤمن؛ فيكون تأويله: فأبى أكثر الناس إلا كفرا بالله وتكذيبا لنعمه؛ بصرفهم العبادة إلى غيره ولتفاؤلهم وتطيرهم أن هذا من نوء كذا، والله أعلم.
وقوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لو شئنا لرفعنا عنك، يعني: ما حملنا عليك من المؤن من مؤنة التبليغ والقيام بذلك، وحملنا غيرك؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل.
والثاني: لو شئنا لجعلنا غيرك - أيضاً - أهلا للرسالة وموضعاً لها في زمانك وحينك، فبعثناه في بعض القرى والمدن، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له.
ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعاً، فلم يرسل، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك؛ فيكون تأويله: لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعاً، فأي الوجهين كان، فهو ينقض على المعتزلة قولهم؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدين.
وقوله: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً }: فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك؛ حيث قال: { فَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً }، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه؛ إذ كان ذلك بمكة؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت.
والثاني: فيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه أمر بالخلاف لهم، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك بالله لا بنفسه؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك، والله أعلم.