التفاسير

< >
عرض

قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٣
قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
٢٤
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ
٢٥
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ
٢٦
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
٢٧
قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
٢٨
قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ
٢٩
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ
٣٠
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٣١
فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ
٣٢
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ
٣٣
قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
٣٤
يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
٣٥
-الشعراء

تأويلات أهل السنة

ثم قال له فرعون: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }: يذكر نعمته التي أنعمها عليه بتربيته إياه صغيراً، وكونه فيهم دهرا، وكفران موسى لما أنعم عليه وهو ما قال: { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }، وهو قتل ذلك القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، فأقر له موسى بذلك، فأخبر أنه فعل ذلك حيث قال: { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ }.
وقوله: { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي: فعلت ذلك وأنا كنت من الجاهلين، لا يعلم أن وكزته تلك تقتله، وإلا لو علم ما وكزه؛ لأنه لم يكن يحل له قتله حيث قال:
{ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [القصص: 15]؛ دل ذلك منه أنه كان لم يحل قتله إلا أنه جرى ذلك على يده خطأ وجهلا.
وفيه دلالة أن الرجل قد ينهى ويؤاخذ بما يجري على يده خطأ وجهلا، ويخاطب بذلك حيث قال: { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ }.
ثم قال: { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ }: وهو حين قال ذلك الرجل:
{ إِنَّ ٱلْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَٱخْرُجْ } الآية [القصص: 20]، فخرج منها خائفاً يترقب، وذلك فراره منهم.
وقوله: { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ }: قال بعضهم: قوله: { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } أي: نبوة.
وقال بعضهم: حكما، أي: منَّ عليّ بالحكم وجعلني من المرسلين، وقد كان ذلك له كله.
وقوله: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }: وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك، هذا يحتمل وجوهاً.
أحدها: أن تذكر ما أنعمت عليّ وتمنها، ولا تذكر مساوئك ببني إسرائيل، وهو استعبادك إياهم، أي: إذا ذكرت هذا فاذكر ذاك.
والثاني: أن تلك نعمة تمنها عليّ حيث لم تعبدني وعبّدت بني إسرائيل، يخرج على قبول المنة منه.
والثالث: وتلك نعمة لو خليت عن بني إسرائيل ولم تستعبدهم لولوا ذلك عنك، وتمام هذا يقول موسى لفرعون: أتمن عليّ يا فرعون بأن اتخذت بني إسرائيل عبيداً، وكانوا أحراراً فقهرتهم؟!
وقال موسى: { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ } أي: من الجاهلين بذلك أنه يتولد من وكزته الموت؛ وكذلك روي في بعض الحروف: { وأنا من الجاهلين }؛ دل أنه على الجهل ما فعل ذلك لا على القصد.
وقال بعضهم: في قوله: { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } يقول: وهذه منة تمنها بقوله: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } يقول: تمن بها عليّ أن تستعبد بني إسرائيل، وتمنّ عليّ بذلك.
ثم قال فرعون لموسى: { وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ }، فقال له: { قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }: من خلق، { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }، ثم قال لمن حوله: { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ }.
إنما قال اللعين هذا - والله أعلم - لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله؛ لأنه إنما سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوبيته؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله؛ وكذلك قال لقومه: { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } إلى ما يقول موسى؛ تعجباً منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر.
ثم قال موسى: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }، فقال عند ذلك: { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ }، نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر، إنما كان السؤال منه عن الماهية، وهو لم يجبه عنها، فعند ذلك قال موسى: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }، لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوبيته وألوهيته حيث قال: { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ذلك، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السماوات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبداً، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ }، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذاً لم يكن بنفسه ولا كان نفسه، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره.
ثم قال: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }: ذكر هاهنا قدرته وسلطانه، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق، وبالليل من المغرب، ويطلع الشمس من المشرق، ويغربها من المغرب؛ وكذلك القمر والنجوم، ففيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا، وبالليل من ناحية كذا، والشمس والقمر من كذا - قادر على البعث، لا يعجزه شيء؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى.
وفي قوله: { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } دلالة ربوبية الله وألوهيته.
وفي قوله: { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } دلالة حدوث ما ذكر وفنائه، ودلالة محدث ومدبر.
وفي قوله: { رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا.
وفي ذلك دلالة أن الله تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه، وبالآيات التي تدل على وحدانيته، حيث سأل فرعون موسى عن الماهية، فأجاب على الاستدلال بخلقه.
ثم قال اللعين: { لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ }: قال بعضهم: إنما أوعده السجن ولم يوعده القتل؛ لأنه طلب منه الحجة على ما ادعى من الرسالة حيث قال: { فَأْتِ بِهِ } الآية، ولو قتله لكان لا يقدر على إتيانها.
وقال بعضهم: لا، ولكن كان سجنه أشد من القتل ومن كل عقوبة.
فقال له موسى: { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } أي: ما يبين ربوبية الله وألوهيته أو ما يبين أني رسول الله، فقال له فرعون: { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } بالرسالة، وبما ادّعيت، فدل قول فرعون لموسى حيث قال له: { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } أنه قد عرف أنه رسول، وأنه ليس بإله على ما ادعى، وأن الإله غيره حيث طلب هذه الآية.
وقوله: { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } بالآيات التي تدل على وحدانية الله تعالى ومشيئته، ذكر هذا مقابل إنكارهم الصانع.
والإيقان: هو العلم الذي يستفاد من جهة الاستدلال؛ ولذلك لا يقال لله: موقن.
وقوله: { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ }: صلة قوله: { إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ }.
وقوله: { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }: قال بعضهم: الثعبان: هو الكبيرة العظيمة من الحيات. وقال في موضع آخر:
{ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [النمل: 10]، وقال في موضع آخر: { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ } [طه: 20]، فجائز أن تكون كالثعبان بعد ما طرحها وألقاها، وقبل أن يطرحها كالجان وهي الحية الصغيرة، والله أعلم.
وقوله: { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ }: بياضاً خارجاً عن خلقة البشرية، وخارجاً عن الآفة على ما ذكر في آية أخرى:
{ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ } [النمل: 12].
وقوله: { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ }: هذا منه إغراء وتحريش منه لقومه على موسى؛ لئلا ينظروا إليه بعين التعظيم؛ لعظيم ما أتاهم من الآية وأراهم، حيث قال: { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ }، وموسى كان لم يرد إخراجهم من أرضهم، ولكن ذلك إغراء منه لهم عليه؛ لئلا يتبعوه؛ كأنه يقول: يريد أن يخرجكم من أرضكم فيفسد عليكم معاشكم، ويضيق عليكم مقامكم ومتقلبكم.
وقوله: { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ }: هذا يبين أنه كان عرف أنه ليس بإله، فبين دناءته وقلة معرفته؛ لأنه لا يقول ملك من الملوك لقومه: ماذا تأمرون، وخاصة من يدعي لنفسه الألوهية بقوله:
{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص: 38]؛ فدل أنه كان خسيس الهمة في الرأي والبال.