التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ
٦٧
لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٦٩
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
٧٠
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٧١
قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
٧٢
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٤
وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٧٥
-النمل

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ }: كأنهم قالوا ذلك لأحد وجهين:
إما استهزاء بما يخبرهم الرسل أنكم تبعثون، أو قالوا ذلك احتجاجا بما احتجوا به على الرسل بقولهم الذي قالوا: { لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }، يحتجون فيقولون: لقد وعد آباؤنا بالبعث كما وعدنا نحن، ثم لم نرهم بعثوا منذ ماتوا؛ فعلى ذلك نحن وإن وعدنا فلا نبعث كما لم تبعث آباؤنا.
ثم قال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ }: يقول - والله أعلم -: لو سرتم في الأرض فنظرتم إلى ما حل بمكذبي الرسل من العذاب، والرسل إنما كانوا يدعون إلى توحيد الله، والإقرار بالبعث بعد الموت، فكل ذلك ينزل بكم ما نزل بأولئك بتكذيبهم الرسل بالبعث وغيره؛ فيكون قوله: { سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } ليس على حقيقة الأمر بالسير، ولكن على ما ذكرنا، أي: لو سرتم لعرفتم ما حل بهم بتكذيبهم، أو أن يكون الأمر بالسير في الأرض أمرا بالتفكر فيما نزل بأولئك، الأمر بالنظر في عاقبة أمرهم أمر بالاعتبار فيهم، وفي أمر أولئك أمر بهذا؛ ليزجرهم ذلك عن مثل صنيعهم وفعلهم.
وقوله: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ }: قال قائلون: قوله: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } بما يحل بهم من العذاب، إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها.
وقال بعضهم: قوله: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } إن لم يسلموا؛ كقوله:
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف: 6]؛ وكقوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]، وقوله: { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]، وأمثال ذلك، كادت نفسه تهلك وتتلف؛ إشفاقاً عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام، فقال: { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ }، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، ليس على النهي، لكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه؛ لئلا تتلف وتهلك، وهو ما قال: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } [القصص: 56].
وقوله: { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بك، ويسخرون بما توعدهم من العذاب والهلاك؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }، قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم؛ فكأنه قال لرسوله: لا تكن في ضيق مما يستهزئون بما توعدهم؛ فإن الله يجزيهم جزاء استهزائهم بك.
والثاني: { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي: مما يريدون ويهمون قتلك؛ فإن الله يحفظك ويحوطك؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك، وهو ما قال:
{ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67].
وفيه دلالة إثبات رسالته؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة، والله أعلم.
وقوله: { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }: قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيباً بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزئون به ويقولون: { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم:
{ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } [الأعراف: 70].
ثم قال: { قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }: هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: { رَدِفَ لَكُم } بعد هذه الحال، وبعد هذا القول الذي قالوا: { بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ }، أي: ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب، وقوله: { رَدِفَ لَكُم } أي: يدنو منكم ويقرب.
والثاني: { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت { بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } وهو عذاب القبر؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والردّ إلى المحنة ثانياً؛ نحو قولهم:
{ رَبِّ ٱرْجِعُونِ } [المؤمنون: 99]، وقولهم: { أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ } [الأعراف: 53] ونحوه.
وقوله: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ }: يحتمل قوله: { لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } وجوهاً:
أحدها: ذو فضل في تأخير العذاب عنهم، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون.
والثاني: ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب الله ومقته وهو الرسول، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه، بل يعاندونه ويكابرونه.
أو لذو فضل على الناس فيما أنعم عليهم في أموالهم وأنفسهم، لكنهم لا يشكرون في ذلك، بل يصرفون شكره إلى غير المنعم، والله أعلم.
وقوله: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
قوله: { تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: ما تكنون أنتم في صدوركم وتسترون فيها { وَمَا يُعْلِنُونَ }، أي: ما يبدون ويظهرون فيها، يعلم ذلك كله.
أو { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ }، أي: ما تخفي أنفس الصدور وتستر فيها { وَمَا يُعْلِنُونَ }: وما تحمل الصدور أصحابها على إبداء ما فيها وإظهاره، وهو ما ذكر في الخبر حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح جميع بدنه وهو القلب" ، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } هذا يخرج على وجهين - أيضاً -:
أحدهما: ما من غائبة في السماء والأرض مما كان ويكون أبد الآبدين إلا كان ذلك مبينا في كتاب مبين، يخبر أنه كان لم يزل عالماً بما كان منهم أبد الآبدين، وأنه عن علم بأفعالهم وصنيعهم خلقهم وأنشأهم، لا عن جهل وغفلة.
والثاني: { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي: ما من غائبة عن الخلق ما يغيب بعضهم من بعض ويستر بعضهم بعضا، { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }: إلا كان ذلك عند الله محققاً ظاهراً مرقوبا، ينبههم؛ ليكونوا على حذر؛ يقول: إن ما يغيب بعضهم من بعض فهو عند الله محفوظ رقيب لا يغيب عنه شيء؛ كقوله:
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18]، والله الموفق.
قال بعضهم: في قوله: { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } أي: أعجل لكم.