التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ
٤٨
قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٩
فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٠
-القصص

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } لا ينتظم الجواب، وليس ما ذكر على إثره جواباً له، إلا أن يقال: إن قوله: { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } أي: لم تصبهم مصيبة، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله: { وَلَوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا } [النور: 16] أي: لم تقولوا: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وقوله: { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ } [النور: 14] أي: لم يمسّهم، وجميع ما ذكر في هذه السورة من { وَلَوْلاۤ } كله أنه لم يكن؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويل قوله: { وَلَوْلاۤ أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } أي: لم تصبهم مصيبة، ولو أصابتهم مصيبة، وهو العذاب { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } وهو كقوله: { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } [طه: 134] على هذا يخرج تأويل هذا.
ثم في هذه الآية في قوله: { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ } وجهان:
أحدهما: على من يقول بأن ليس لله أن يعذبهم بما كان منهم قبل بعث الرسل إليهم لقوله:
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وفي الآية بيان أن له أن يعذبهم وإن لم يبعث الرسل؛ لأنه أوعدهم الهلاك، فلو لم يكن له التعذيب والإهلاك لم يكن للإيعاد فائدة؛ فدل أن له الإهلاك في الدنيا والاستئصال، لكنه أخره عنهم؛ فضلا منه ورحمة.
والثاني: على المعتزلة في قولهم الأصلح؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أوعدهم أصلح لهم من الترك أو الترك لهم أصلح: فإن كان ما أوعد لهم أصلح فقد تركهم؛ فيكون في تركهم إياهم جائراً على قولهم؛ لأنه لم يفعل ما هو أصلح لهم في الدين.
أو أن يكون الترك لهم أصلح؛ فيكون بما أوعدهم جائرا؛ إذ أوعد بما كان غيره أصلح لهم مما أوعد؛ فدل ما ذكرنا على أن ليس على الله حفظ الأصلح لهم في الدين.
ثم قوله: { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ليس الكفر نفسه، ولكن العناد والمكابرة مع الكفر؛ لأن عذاب الكفر في الآخرة ليس في الدنيا؛ لأن الله تعالى قد أبقى كثيراً من الكفرة لم يهلكهم ولم يعذبهم في الدنيا، ولكن إنما أهلك واستأصل في الدنيا من عاند وكابر الرسل في الآيات والحجج التي أتوهم بها وأقاموها عليهم على أثر سؤال كان منهم، فعند ذلك أهلكهم واستأصلهم لا بنفس الكفر، ثم مع ما كان له التعذيب قبل بعث الرسل لم يعذبهم، ولكن أخر عنهم إلى أن يبعث الرسل إليهم بالآيات والحجج؛ ليقطع به لجاجهم ومنازعتهم فضلا منه، وإن لم يكن لهم الاحتجاج عليه بقولهم: { لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
يحتمل قوله: { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } الآيات التي تبعث مع الرسل لا يبعث الرسل بالآيات.
وجائز أن يكون قوله: { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } يعنون بالآيات: الرسل أنفسهم، والله أعلم.
وقوله: { فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا }: جائز أن يكون الحق الذي ذكر الرسول نفسه، ويحتمل الحق الكتاب الذي أنزل عليه وآيات.
وقوله: { قَالُواْ لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ }: هذا يحتمل وجوهاً:
أحدها: قالوا: هلا أوتي محمد من أنواع النعم من المن والسلوى وغيره من غير تكلف ولا تعب؛ مثل ما أوتي موسى لو كان رسولا على ما يقول.
أو أن يقولوا: لولا أوتي من الآيات الحسيات الظاهرات من نحو اليد والعصا والحجر الذي كان ينفجر منه والغمام، وما ذكر من الضفادع والقمل والدم والطوفان وغير ذلك مثل ما أوتي موسى.
أو أن يقولوا: لولا أوتي محمد القرآن جملة عياناً جهاراً؛ كما أوتي موسى التوراة جملة عياناً جهاراً، والله أعلم بذلك ما عنوا به.
ثم بين الله تعالى وأخبر أنهم إنما يسألون ما سألوه سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد وطلب الحق حيث قال: { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } أي: لم يكفر هؤلاء الذين سألوك الآيات بما أوتي موسى - يعني: أهل مكة - لأنهم كانوا مشركين لم يؤمنوا برسول قط من قبل.
ويحتمل قوله: { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } أي: أولم يكفر قوم موسى بعد سؤالهم الآيات إذ أتاهم بها؛ فعلى ذلك هؤلاء يكفرون بما أوتيت. والأول أشبه.
ثم قالوا: { سِحْرَانِ تَظَاهَرَا }، وقد قرئ: { ساحران } بالألف.
وقال بعضهم ساحران: موسى وهارون.
وقال بعضهم: موسى ومحمد.
وقال بعضهم: عيسى ومحمد.
وقوله: { سِحْرَانِ } بغير ألف: كتابان، لكنهم اختلفوا:
قال بعضهم: التوراة والإنجيل.
وقال بعضهم: الفرقان والتوراة ونحوه.
وقال بعض أهل الأدب: ساحران: أولى وأقرب؛ لأن ذكر التظاهر إنما يكون بين الأنفس لا يكون بين الكتب.
{ تَظَاهَرَا } أي: تعاونا.
وقال بعضهم من أهل الأدب - أيضاً - { سِحْرَانِ } بغير ألف أولى؛ لأنه أراد به الكتابين. ألا ترى أنه طلب منهم بما قالوا إتيان الكتاب حيث قالوا: { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ } ردّاً على ما قالوا وطلبوا منه.
لكن نقول نحن: لا نحب أن نختار إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأنه إنما هو خبر أخبر عنهم أنهم قالوا ذلك: فمرة قالوا: { ساحران }، ومرة قالوا: { سِحْرَانِ }، فأخبر على ما قالوا؛ وكذلك قوله: { سيقولون الله } بالألف وبغير الألف، لا يختار أحدهما على الآخر؛ لأنه خبر أخبر عنهم على ما كان منهم فهو على ما أخبر، والله أعلم.
وقال بعض أهل التأويل في قوله: { لَوْلاۤ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ }: قالت اليهود: نأمر قريشاً أن تسأل أن يؤتى محمد مثل ما أوتي موسى يقول الله لرسوله: قل لقريش يقولوا لهم: { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ } يعني: اليهود، وقالوا: { ساحران تظاهرا } قال قول اليهود لموسى وهارون وهو مما ذكرنا قريب، والله أعلم.
وقوله: { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } ما أوتي موسى على اختلاف ما ذكرنا.
ثم قال: قل يا محمد لقريش أهل مكة: { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ } من التوراة والفرقان أو التوراة والإنجيل على اختلاف ما قالوا، { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في زعمكم أنهما سحران تظاهرا، وأنه مفترى، ائتوا أنتم من عند الله بكتاب أتبعه؛ إلى هذا ذهب أهل التأويل.
ووجه آخر يشبه أن يكون أقرب منه: وهو أن قوله: { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَآ }، أي: ائتوا بكتاب من عند الله أنه أمركم بعبادة الأصنام والأوثان؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام دون الله، ويقولون: الله أمرهم بذلك، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وإن عبادتهم إياها تقربهم إلى الله زلفى ونحوه من الكلام، فيقول - والله أعلم -: ائتوا بكتاب من عند الله: أنه أمركم بذلك هو أهدى منهما، أي: أبين منهما وأوضح من هذين؛ لأن هذين إنما جاءا بنهي عبادة غير الله ومنعها دونه، يقول: ائتوا بكتاب هو أهدى وأبين عما جاء منه من هذين، إن كنتم صادقين أن الله أمركم بذلك، ويكون عبادتكم إياها على ما تزعمون، هذا جائز أن يكون أقرب من الأول، والله أعلم.
وقوله: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ }: في إتيان ما تطلب منهم وتسأل من الكتاب، { فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } بغير علم، وهم كانوا يعلمون: أنهم إنما يتبعون في عبادة الأصنام وتحريم الحلال وتحليل الحرام - أهواءهم، ويجعلون هواهم هو الإمام؛ إذ لا يؤمنون برسول حتى يكون لهم كتاب.
ثم قال: { وَمَنْ أَضَلُّ }، أي: لا أحد أضل { مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ }، أي: من غير بيان من الله - { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ }، أي: والله أعلم -: إن الله لا يهدي قوماً يتبعون أهواءهم، لا يتبعون الحجج والبراهين لا يهديهم ما داموا في اتباع هواهم.
أو لا يهدي القوم الذين ظلموا الحجج والبراهين، والله أعلم.