التفاسير

< >
عرض

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ }: يقول - والله أعلم -: وربك يختار للرسالة من يشاء ويجتبيه لها، فيجعلهم رسلا.
{ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ }: يقول: لم يكن لهم أن يختاروا هم، ولكن الله يختار ويصطفي من يشاء ردّاً لقولهم:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ... } الآية [الزخرف: 31]، إلى هذا ذهب بعضهم.
وجائز أن يكون هذا في كل أمر، أي: وربك يختار ما يشاء ويأمر، وما كان لهم الخيرة من أمره أي: التخلص والنجاة من أمره؛ كقوله:
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } [الأحزاب: 36] أي: أمر الله ورسوله أمراً، { أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36].
والقضاء هاهنا أمر، لكنه يحتمل وجهين:
أحدهما: على الوقف على قوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ }، والابتداء من قوله: { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } من أمرهم، فإن كان على هذا فيكون (ما) هاهنا (ما) جحد، أي: لم يكن لهم الخيرة من أمرهم.
والثاني: على الصلة: ليس على الحجاج، فيكون تأويله: وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يكون الوقف على هذا على قوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }، ثم يقول { وَيَخْتَارُ } الذي لهم { ٱلْخِيَرَةُ }.
قال أبو معاذ: قرئ { ٱلْخِيَرَةُ } بجزم الياء وبتحريكها { ٱلْخِيَرَةُ }.
ثم قوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } على المعتزلة من وجهين:
أحدهما: ما أجمعوا عليه أن الله قد شاء جميع ما يفعله العباد من الخيرات والطاعات، فإذا شاء ذلك دل أنه خلقها لهم، أخبر أنه يخلق ما يشاء وقد شاء الخيرات؛ فدلّ ذلك على خلق أفعال العباد.
لكنهم يقولون: قوله: { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } إذا خلقه؛ وكذلك يقولون في قوله:
{ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 284]: إن خلقه أو كلام نحو هذا.
فلئن جاز لهم هذا من الزيادة جاز لكل أحد مثله، فذلك بعيد.
وعلى قولهم أكثر الأشياء ليست بمخلوقة لله، وهو على أكثر الأشياء غير قدير؛ لأن أفعال الخلق لا شك أنها أكثر من أنفسهم، فأخبر أنه على كل شيء قدير، وأنه يخلق ما يشاء، وأن هذا منه خرج مخرج الامتداح له والثناء له بما له من السلطان والقدرة على الخلق كلهم، فلو كان على ما يقوله المعتزلة لم يكن هذا مدحاً له ولا ثناء بالسلطان والقدرة؛ إذ هو على قولهم على أكثر الأشياء ليس بقادر على ما ذكرنا.
ثم نزه نفسه وبرأها عما قالوا فيه وأشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته وفي عبادته فقال: { سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }، وقال: { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } هذا يخرج على الوعيد لهم والتنبيه؛ ليكونوا على حذر فيما يسرون وما يعلنون، والله أعلم.
وقوله: { وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ }.
قوله: { وَلَهُ ٱلْحُكْمُ } كقوله: { وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ }، وقد ذكرنا أن قوله: { وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } من أمرهم أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: له الاختيار في أمرهم؛ لا لهم الاختيار في أمرهم، ولا يملكون هم ما يختار لهم دفعه.
والثاني: هو يختار لهم الخيرة في أمرهم؛ لأنه هو العالم بمصالح أمورهم وما يرجع إلى الأوفق والأنفع وهم لا يعرفون ذلك، فعلى ذلك قوله: { وَلَهُ ٱلْحُكْمُ } في الدنيا والآخرة لأن أنفس الخلائق له دونهم، فله الحكم في أمورهم وأفعالهم؛ كما له الحكم في أحوالهم؛ لأنه لا يلحقه الخطأ في حكمه؛ إذ هو عالم بذاته، ولا تلحقه التهمة أيضاً في دفع مضرة أو جر نفع؛ لأنه غني بذاته فله الحكم في الدارين جميعاً، والله الموفق.
وقوله: { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ }: هذا يخرج على وجوه:
أحدها: ما قاله أهل التأويل: إن أولياءه يحمدونه في الدنيا والآخرة في الجنة حيث قالوا:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ... } الآية [فاطر: 34] يقولونه إذا دخلوا الجنة.
والثاني: وقال بعضهم: { فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } يقول: في السماوات والأرض، وتصديقه قول الله:
{ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الروم: 18]، وقوله: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 1]، وقوله: { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [الإسراء: 44].
والثالث: { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ }: وهو أن جعل الدنيا مشتركة بين الأعداء والأولياء في نعيمها غير مفترقة ولا مختلفة، وأما الآخرة فقد فرق فيها بين الأولياء والأعداء؛ جعل للأولياء النعمة الدائمة وللأعداء العذاب الدائم، فله الحمد على ذلك.
والرابع: { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } لما جعل الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء لم يجعلها دار المحنة.
أو أن يكون قوله: { لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ } أي: له الحمد من الخلق في كل حال وكل وقت؛ كقوله:
{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10]، أنهم يحمدونه في بدء كل أمر وختمه، أو أن يكون له الحمد.