التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ
٢
وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ
٣
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٤
مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٥
وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٦
-العنكبوت

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { الۤـمۤ }: قد ذكرناه في غير موضع.
وقوله: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ }.
قوله: { أَحَسِبَ }: هو وإن كان في الظاهر استفهاماً فهو على الإيجاب لا الاستخبار؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك، فالله سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك.
ثم يخرج قوله: { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ } على أحد وجهين؛ [أحدهما] أي: قد حسب الناس. والثاني: أي: لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا: آمنا.
وقوله: { أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا }: ذكر الإيمان ولم يذكره بمن؟ بالله أو بغيره؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن؟ إلا أن الله تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل: الإيمان بالله وبرسله، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق: كتاب الله، والدار الآخرة: الجنة، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق: كان كتاب الله، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق: الإيمان بالله وبرسله، وفهموا أيضاً من الدين المطلق: دين الله؛ فيكون قوله: { أَن يَقُولُوۤاْ } آمنا بالله أو برسله.
وقوله: { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } أي: لا يبتلون، والفتنة: هي الابتلاء الذي فيه الشدة، يمتحن الله عباده باختلاف الأحوال: مرة بالضيق والشدة، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان بالله تعالى وكذبه؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر ويقول: آمنت - كاذباً، فجعل الله تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ... } الآية [الحج: 11]، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء، و[هو] ما قال: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35]، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه، وإنما يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك.
ثم قال بعضهم: نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان، وأضمروا الخلاف والكذب. وقال بعضهم: نزلت في قوم آمنوا بالله وبرسوله حقيقة، ثم عذبوا بأنواع العذاب؛ فتركوا الإيمان وكفروا به؛ وفيهم نزل:
{ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } [العنكبوت: 10] فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك، والله أعلم.
وقوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ }: [ذكرنا] فيما تقدم أنه يعلم ظاهراً كائناً ما قد علمه غير كائن أنه يكون، وليعلمه موجوداً ما قد علمه غير موجود أنه يوجد، والله أعلم.
وقوله: { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ }: هذا أيضاً يخرج على وجهين:
أحدهما: قد حسب الذين ... ما ذكر. والثاني: لا يحسب؛ على النهي.
وقوله: { أَن يَسْبِقُونَا }: لا أحد يقدر أن يسبق الله في عذابه ونقمته، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها، ورأوا أيضاً عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم - ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث؛ كقوله:
{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ } [ص: 27] حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء، والله أعلم.
وقوله: { مَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ }: أضاف اللقاء إلى نفسه، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله:
{ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [التغابن: 3]، وقوله: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } [هود: 123]، وقوله: { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [إبراهيم: 21] ونحوه، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة؛ إذ لو لم يكن آخرة، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعباً باطلا؛ كقوله: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] صير خلقهم لا للرجوع إليه لعباً باطلا.
وقوله: { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }: بما يقولون ويظهرون، والعليم بما يضمرون ويسرون؛ لأن القصة قصة المنافقين.
أو السميع المجيب العليم بحوائجهم وأمورهم، والله أعلم.
وقوله: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ }، وكذلك قوله:
{ مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت: 46]، وقوله: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء: 7]، أي: فعليها.
ففي هذا: أن الله إنما امتحن الخلائق لا لحاجة له فيما امتحنهم من دفع مضرة أو جر نفع، لكن إنما امتحنهم لحاجة أنفسهم في دفع المضار وجر المنافع؛ وكذلك إنما أنشأ الدنيا وهذا العالم فيها لا لحاجة له في إنشاء ذلك، ولكن لحوائج أنفسهم، وكذلك ما أنشأ من الخلائق سوى البشر إنما أنشأ البشر وله سخر جميع ذلك، وجعل البشر بحيث يقدر على استعمال جميع ذلك لمنافع أنفسهم وحاجتهم، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن حيث قال:
{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } [الجاثية: 13]، وقوله: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29] ونحو ذلك؛ فعلى ذلك امتحن هذا العالم لحاجة أنفسهم في دفع مضار وجر نفع؛ لذلك قال: { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي: لحاجة نفسه ومنفعة نفسه، لا لمنفعة أو لحاجة لله تعالى.
{ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ }: هذا تفسير ما ذكر.
ثم المجاهدة تكون مرة مع الشيطان والجن، ومرة مع أعدائه من الإنس، ومرة مع هوى النفس، ومرة في أمر الدنيا، كل ذلك مجاهدة في الله؛ قال الله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69]، والله أعلم.