التفاسير

< >
عرض

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٦
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٢٧
-العنكبوت

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ }.
قوله: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } إلا كذا: ليس في جميع الأوقات وجميع المشاهد، ولكن جائز أن يكون هذا: ما كان جواب قومه في مشهد إلا كذا.
أو أن يكون: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه.
وإلا لم يحتمل ألا يكون منهم إلا ما ذكر من الجواب قد كان جوابات وأجوبة سواء.
لكن يحتمل ما ذكرنا: أن ما كان جواب قومه في مشهد إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه.
أو ما كان آخر جواب قومه إلا قالوا: اقتلوه أو حرقوه، وهو ما ذكرنا في قوله:
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ } [العنكبوت: 29] لا يحتمل أنه لم يكن منهم إلا هذا ولكن ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ }: حين ألقوه فيها، { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }: ذكر الآيات في ذلك، فجائز أن يكون ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها - لآيات لمن ذكر.
وجائز أن يكون فيما ذكر هنا خاصة، لكن ليس من شيء إلا وفيه آيات من وجوه: آية الوحدانية، وآية الألوهية، وآية علمه وحكمته وتدبيره وبعثه؛ فهو آيات.
وقوله: { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ذكر الآيات للمؤمنين يحتمل وجهين:
أحدهما: ذكر الآيات لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون من كفر.
والثاني: الآيات لهم على المكذبين بها والكافرين، أي: حجة لهم عليهم؛ كقوله:
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [الأنعام: 83]، والله أعلم.
وقوله: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ } كذا هو صلة قصة إبراهيم وإليه يرجع، وهو ما تقدم من دعائه إياهم حيث قال:
{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ... } الآية [العنكبوت: 16].
وقوله: { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً } يقول - والله أعلم -: ما اتخذتم من دون الله معبودات سميتموها: آلهة، فهي ليست بآلهة ولا معبود، إنما هي أوثان { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا }، يقول - والله أعلم: هذه الأصنام معبودات واجتماعكم عليها إنما هي مودة حياة الدنيا، لا مودة لها عاقبة أو تدوم، بل تصير العاقبة عداوة وبغضاً، وهو ما ذكر. { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً }، قال بعضهم: يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا؛ كقوله:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
وقال بعضهم: يتبرأ المتبوع من الأتباع؛ كقوله:
{ رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ } [الأعراف: 38]، وقوله: { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [مريم: 82] ونحوه.
ثم أخبر: أن مأوى الكل النار، وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب الله، أو يدفع عنهم العذاب.
ثم اختلف في قوله: { وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ }.
قال بعضهم: هذا قول إبراهيم لقومه؛ كقوله:
{ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [الصافات: 95]؛ وكقوله: { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } [الشعراء: 93]. وقال بعضهم: هذا قول الرسول لقومه الذين عبدوا الأصنام، والله أعلم.
وقوله: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ }.
قوله: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } يحتمل وجهين:
أحدهما: قوله: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي: أظهر له لوط الإيمان من بين غيرهم، وقد كان لوطا مؤمنا من قبل ليس أنه أحدث له الإيمان في ذلك الوقت، ولم يكن مؤمناً قبل ذلك، ولكن ما ذكرنا أنه أظهر له الإيمان من بين غيرهم.
والثاني: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } فيما دعاه إليه وهو الهجرة، أي: فيما أخبر أنه أمر بالهجرة فاستصحبه فيها.
وقوله: { مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ }: قال أهل التأويل: هذا قول إبراهيم كقوله:
{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [الصافات: 99].
وجائز أن يكون قوله: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ } قول لوط.
ثم لم يفهم من قوله: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ }، وقوله:
{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [الصافات: 99] انتقاله أو المكان أو شيء مما يوجب التشبيه مما يفهم من الخلق، فكيف يفهم من قوله: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ } [البقرة: 210]، وقوله: { وَجَآءَ رَبُّكَ } [الفجر: 22] و { ٱسْتَوَىٰ } [البقرة: 29] وأمثاله - ما يفهم من مجيء الخلق وإتيانهم واستوائهم؟ إذ لا فرق بين مجيء آخر إليه وبين مجيئه إلى آخر؛ هذا في الشاهد سواء، فكيف فهم في الغائب في أحدهما ما لم يفهم من الآخر، وهما سيان في الشاهد؟! فدل أنه لا يجوز أن يفهم منه شيء من ذلك ما يفهم من الخلق؛ إذ أخبر أنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11].
وقوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ } يعني: لإبراهيم، { إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }: ذكر أنه وهب له إسحاق ويعقوب؛ ليعلم أن الولد هبة الله، وكذلك ولد الولد؛ لأن يعقوب كان ولد ولده، حيث قال:
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71] فكلهم هبة الله إياه، قال: { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [الشورى: 49].
وقوله: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ }: لم تزل النبوة في ذرية إبراهيم من لدنه إلى هذا الوقت، كان جميع أنبياء بني إسرائيل من ولد إسحاق، ونبينا محمد - صلوات الله عليه - كان من ولد إسماعيل، عليه السلام.
وقوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا }: اختلف في الأجر الذي أخبر أنه آتاه إبراهيم في الدنيا: قال بعضهم: هو ما وهب له من الولد في الكبر.
وقال بعضهم: هو ما سخر له الألسن بأجمعها على الثناء الحسن عليه؛ حيث نسب جميع أهل الأديان على اختلاف أديانهم ومذاهبهم أنهم على دينه وسنته وسيرته وتولى كل به.
وجائز أن يكون قوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا }: ما أخبر أنه آتى جميع المؤمنين وأعطاهم، وهو ما قال:
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هٰذِهِ ٱلْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [النحل: 30]، وما ذكر من ثواب الدنيا، فما من مؤمن إلا وقد آتاه الله في الدنيا أجرا وثوابا، فذلك الذي أتى إبراهيم.
أو لا نفسر ما ذلك الأجر الذي ذكر أنه آتاه الله؟ والله أعلم.
وقوله: { وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ }: هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لو لم يكرمه الله بالنبوة والرسالة لكان هو أيضاً في الآخرة من الصالحين.
والثاني: ذكر الصلاح له لحقيقة صلاحه، أي: يكون هو ممن حقق الصلاح؛ وكذلك ما ذكر في موسى وهارون حيث قال:
{ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الصافات: 122] أي: من عبادنا الذين حققوا الإيمان، وغيرهم من المؤمنين لم يحققوا.
أو أن يكون ما ذكرنا، أي: لو لم يكن الإكرام الذي أكرمه الله - وهو النبوة - لكان من المؤمنين أيضاً، وإلا ليس في ذكر الإيمان والصلاح لهم كبير منقبة وفضيلة عند الناس؛ إذ يسمى بهذين كل مؤمن ومصلح، والله أعلم.
وعن ابن عباس في قوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } قال: عمله ما جزي في الآخرة.
وقتادة يقول: آتاه الله عاقبة وعملا صالحاً وثناء حسناً، وقال: فلست تلقى أحداً من أهل الملل إلا يرضى بإبراهيم، والله أعلم بذلك.
وقال بعضهم: ما ذكرنا: أنه أعطى الولد الطيب في كبر سنه.