التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ
٦٥
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ
٦٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ
٦٧
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٦٨
وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٦٩
-العنكبوت

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } الآية، على المعتزلة في قولهم: إن على الله الأصلح لهم في الدين؛ لأنه أخبر أنهم أخلصوا الدين لله إذا ركبوا في الفلك، ولا شك أن ذلك أصلح لهم في الدين، فلما لم يبقهم على تلك الحال ليكونوا على ذلك الإخلاص؛ بل أخرجهم منها فعادوا إلى ما كانوا فدل ذلك أن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدين.
وقوله: { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } قوله: { لِيَكْفُرُواْ } أي: أنجاهم ليكونوا على ما علم منهم أنهم يكونون، وقد علم أنه يكون منهم الكفر، فأنجاهم إلى البر؛ ليكون منهم ما قد علم أنه يكون ويختارون، وكأن إخلاصهم الدعاء في الفلك لم يكن إخلاص اختيار، ولكن إخلاص دفع البلاء عن أنفسهم؛ إذ لو كان ذلك إخلاص اختيار، لا دفع البلاء لكانوا لا يتركون ذلك في الأحوال كلها، فهذه الآية وإن كانت في أهل الكفر، ففي ذلك - أيضاً - توبيخ لأهل الإسلام؛ لأنهم لا يقومون بالشكر لله وإخلاص العبادة له في حال السعة والنعمة كما يكونون في حال الضيق والشدة، فينبههم ليكونوا في الأحوال كلها مخلصين العمل لله شاكرين له؛ لئلا يكون عملهم على حرف وجهة كعمل أهل النفاق، وكعمل أولئك الكفرة، والله أعلم.
وقوله: { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } قيل: يكذبون.
وقيل: يعدلون.
وقيل: يؤفكون: يؤفنون ويحمقون، والمأفون: الأحمق، والأفن: الحمق.
وقوله: { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } أي: سوف يعلمون صدقي في قولي، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه كما عادوا إلى ما كانوا عليه إذ أنجاهم من الأهوال التي ابتلوا بها؛ أي: سوف يعلمون ما أوعدهم الرسل.
وفي قولهم: { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } وجه آخر: وهو أن يقال: ما هذه المحاسن والأعمال [التي] تعملون وتعدون محاسن وصلاحاً في هذه الدنيا إلا لهو ولعب؛ لما لا تبقى ولا تنتفعون بها إلا ما ابتغي بها وجه الله والدار الآخرة، وهو ما قال: { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي: هي الباقية الدائمة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون }.
وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } قد ذكرنا في غير موضع: أن الاستفهام من الله يخرج مخرج الإلزام والإيجاب، أو يخرج مخرج الخبر، لا على حقيقة الاستفهام؛ لأنه عالم بذاته، يعلم ما في باطنهم وظاهرهم، وما يسرون وما يعلنون، بما كان ويكون، لا يستفهم عباده شيئاً، ولكنه يخرج على ما ذكرنا على الخبر، أو على الإلزام والإيجاب؛ فالخبر كأنه يقول: قد رأوا وعلموا أن الله جعل الحرم مأمناً لهم يأمنون فيه، وكان الناس حولهم يتخطفون ويخافون، والإلزام والإيجاب أن يقول لهم: اعلموا أن الله جعل لكم الحرم مأمناً تأمنون فيه والناس من حولكم على خوف يسلبون ويُسْبَوْنَ ويقتلون.
ثم يخرج تذكيره إياهم هذا على وجهين:
أحدهما: أن الله قد جعل لكم الحرم مأمناً تأمنون فيه؛ لتعظيمكم حرم الله وبيته، والناس حولكم على خوف، وأنتم تشاركون من حولكم في الدين، فكيف تخافون الاختطاف والاستلاب إذا دنتم بدينه واتبعتم رسوله، فإذا آمنكم بكونكم في حرم الله وتعظيمكم بيته، ودفع عنكم الاستلاب والاختطاف، فكيف تخافون ذلك إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره؟! بل الأمن والسعة إذا دنتم بدينه واتبعتم أمره أكثر وأحق؛ فكأنهم إنما تركوا اتباع دينه خوفاً من الاختطاف؛ كقولهم:
{ إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } [القصص: 57] فقال لهم: { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [القصص: 57].
أو يذكر هذا لهم: أنه قد أمنكم وصرف عنكم مع عبادتكم الأصنام وصرفكم الشكر إليها عند كل مكروه وسوء بكونكم في مجاورة بيته وحرمه، فإذا صرفتم العبادة إليه وشكرتم نعمه - أحق أن يؤمنكم ويوسع عليكم نعمه ويدفع عنكم ما لم يدفع عمن حولكم، وأنتم شركاؤهم في عبادة الأصنام واتخاذهم إياها آلهة.
على هذا يخرج، والله أعلم.
وقوله: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } يحتمل قوله: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي: بما أوحى إليكم إبليس من الباطل تؤمنون، وهو ما أوحى إليهم: أن هؤلاء شفعاؤكم عند الله وعبادتكم إياها تقربكم إلى الله زلفى؛ كقوله:
{ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ... } الآية [الأنعام: 121].
وقوله: { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي: بما أوحى إليكم محمد من الله تكفرون.
أو أن يكون قوله: { أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } أي: بالشرك يؤمنون { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ } أي: بتوحيد الله يكفرون.
أو أن تكون النعمة - هاهنا - هي القرآن، أو ما ذكرنا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله يخرج على وجهين: على الخبر مرة، وعلى الإيجاب تارة والإلزام: [أي]: اعلموا أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله.
وعلى الخبر: أي: قد علمتم أن ليس أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله؛ إذ قد عرفتم بعقولكم قبح الافتراء والكذب فيما بينكم، فلا كذب ولا افتراء أوحش أو أقبح من الافتراء على الله، فكيف افتريتم عليه وهو أوحش وأقبح؟!.
وقوله: { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ } يحتمل: { كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ } برسول الله، أو بالقرآن الذي عجزوا عن إتيان مثله، أو بالتوحيد، أو كذب بالحق الذي ظهر حقه وصدقه لما جاءه.
وقوله: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } كأنه يقول: اعلم أن جهنم مثوى للكافرين؛ يذكره على التصبّر على أذاهم، والتسلي له بما كان يضيق صدره لمكان تركهم الإيمان والإياس منهم.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } يشبه أن يكون هذا صلة قوله: { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي: ليس من أجهد نفسه في طلب الدنيا والعمل لها إلا لهواً ولعباً، وأما من أجهد نفسه لله وطلب مرضاته فهو حق وله دار الحياة التي لا موت فيها ولا انقطاع.
ويشبه أن يكون على الابتداء لا على الصلة بالأول؛ يقول: والذين جاهدوا أنفسهم في هواها وشهواتها وأمانيها حقيقة ابتغاء مرضات الله وطلب الهداية والدين وسبيله { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ذكر السبل - هاهنا - لما سبق ذكر الجماعة، يقول: الذين جاهدوا فينا لنهدينهم كلا سبيلا فيكون سبلا للكل، وأما قوله:
{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ } [الأنعام: 153] أن السبل على الإطلاق على غير تقدم ذكر من الهدى، أو شيء من الإضافة إلى الله - هي سبل الشيطان، والله أعلم.
وقوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } يحتمل قوله: { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } في التوفيق لهم في الإحسان والأعمال الصالحة.
أو مع المحسنين في النصر لهم والمعونة لهم مع أعدائهم.
أو مع المحسنين يحفظهم ويتولاهم.
ثم لم يفهم أحد من الخلق من قوله: { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } و{ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } ما يفهم من الخلق وذوي الأجسام والجثات، فكيف فهم بعض الناس من قوله:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [الأعراف: 54] و { وَجَآءَ رَبُّكَ } [الفجر: 22] و { يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [البقرة: 210] في كذا ما يفهم من استواء الخلق ومجيئهم وإتيانهم؟! ليعلم أن فهم ذلك على ما يفهم من الخلق بعيدٌ محال، والله أعلم بالصواب.