التفاسير

< >
عرض

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
١١٠
لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١١١
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

تأويلات أهل السنة

وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال: "خير الناس أنفعهم للناس و{ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ }: أي تأمرونهم، أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلون عليه، ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف، والمنكر: هو التكذيب، فهو أنكر المنكر".
وعن علي - رضي الله عنه - [أنه] قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِياءِ، قلنا يا رسول الله، وما هو؟ قال: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُوراً، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأُمَمِ" .
قال الشيخ -رحمه الله -: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } له وجهان:
أي: { كُنْتُمْ } على ألسن الرسل في الكتب المتقدمة خير أمة.
ويحتمل: أي: كنتم صرتم بإيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعكم ما معه - خير أمّة على وجه الأرض؛ لأنهم آمنوا ببعض، وكفروا ببعض.
وقوله: { تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ }: يتوجّه إلى وجوه ثلاثة:
المعروف: هو المعروف في العقول، [أي]: الذي تستحسنه العقول، والمنكر: هو الذي قبحته العقول وأنكرته.
ويحتمل أن يكون المعروف: هو الَّذي عرف بالآيات والبراهين أنه حسن، والمنكر: [ما عرف بالحجج؛ أي: أنه قبيح.
ويحتمل أن المعروف: هو الذي جرى على ألسن الرسل أنه حسن، والمنكر:] هو الذي أنكروه ونهوا عنه.
فعلى هذه الوجوه يخرج تأويل الآية، والله أعلم.
وقوله: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ }.
لا شك أن الإيمان خير لهم من الكفر، ولكن معناه - والله أعلم - أنهم إنما أبوا الإيمان وتمسكوا بالكفر لوجهين:
أحدهما: أنهم كانوا أهل عزة وشرف فيما بينهم، وأهل دراية؛ ينتاب إليهم الناس، ويختلفون إليهم بحوائجهم، فخافوا ذهاب ذلك عنهم إذا آمنوا، فأخبر الله - عز وجل - أنهم إن آمنوا لكان [خيراً] لهم من الذكر والشرف والعزّ في أهل الإيمان أكثر مما لهم في أهل الكفر؛ ألا ترى أنّ من آمن منهم مِنْ دَرَسة الكتاب وعلمائهم - كان لهم من الذكر والشرف في الإيمان ما لم يكن لأحد مات منهم على الكفر؛ نحو: عبد الله بن سلام، ومن أسلم منهم؛ نحو: كعب، وغيره من الأحبار؟! وإنما كانوا من علمائهم لم يكونوا من علماء أهل الإيمان، فنالوا بالإيمان من الذكر والعزّ والشرف ما لم ينل أحد منهم مات على الكفر، بل حمل ذكرهم وانتشر في أهلهم؛ فضلاً عن أهل الإيمان والإسلام، والله أعلم.
والثاني: أنهم كانوا أبوا الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم، واختاروا المقام على الكفر؛ خوفاً وإشفاقاً على ما لهم من المنافع والمنال أن يذهب ذلك عنهم بالإسلام، فأخبر - عزّ وجلّ - أنهم لو آمنوا لكان خيراً لهم في الآخرة؛ إذ ذاك ينقطع ويذهب عن قريب، والذي لأهل الإيمان في الآخرة باق دائم، لا يزول أبداً؛ لما كان الذي يُنال بالإيمان غيباً، وكذلك ما يحلُّ بالكفار من جزاء الكفر - غيب اشتد عليهم الفكر والتدبر، لما يمنعهم عن الشهوات، وبنغص عليهم اللّذات، فآثروا ما هوته أنفسهم وتلذذوا به على التدبّر، مع ما كان إدراك الغائب بالشاهد أمر عسير، لا يوصل إليه إلا بفضل الله، ولم يكن عليه ذلك لا يسقط معنى الإفضال والإنعام، ويصير حقّاً مع ما كان منهم تقديم الجفاء، وإيثار زهرة الدنيا وبهجة الغنى على الموعود، والله أعلم.
وقوله: { مِّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَاسِقُونَ }:
كذلك كانوا: كان المؤمنون أقل، والكفار أكثر، [والله أعلم].
وقوله: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ... } الآية:
فيه بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، بالأمن لهم عن أذى المشركين وضررهم، إلا أذى باللسان؛ وهو كقوله - تعالى -:
{ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [آل عمران: 186]، وقوله: { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ... } الآية [الحشر: 12]، ونحوه من الآيات التي فيها بشارة لأهل الإيمان بالنصر لهم على عدوهم.
وفي قوله: { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى... } الآية - دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر بذلك قبل أن يكون، فكان على ما أخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك بالله عزّ وجلّ.
وقوله: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ }.
وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ضُربت عليهم المسكنة" وليس فيه الذلة، وفي حرف حفصة: "ضربت عليهم المسكنة والذلة".
ثم اختلف في { ٱلذِّلَّةُ }: قيل: هي الجزية التي ضربت عليهم، وهي ذلة؛ كقوله:
{ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]؛ لأنهم كانوا يأنفون عنها.
وقوله: { أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ } أي: وجدوا.
{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ }.
يعني: بعهد من الله، وعهد من الناس يكون تحت قوم يؤدّون الجزية؛ وكذلك تأوّل ابن عباس - رضي الله عنه -: { بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ } أي: بعهد من الله، وعهد من الناس.
وقال مقاتل: و"الناس" في هذا الموضع: النبي صلى الله عليه وسلم خاصّة.
ويحتمل قوله: { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } بكفرهم فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل ذكر وشرف وعز فيما بينهم.
{ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ }.
أي: لا يوجدون إلا بحبل من الله وحبل من الناس - بالإسلام، أي: لا يظفرون بهم ولا يوجدون؛ إلا أن يسلموا لخوفهم على أنفسهم.
وقوله: { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }:
قيل: استوجبوا غضباً من الله بكفرهم.
وقيل: رجعوا.
وقيل: وجب عليهم الغضب.
وقد ذكرنا هذا في غير موضع. والله أعلم.
وقوله: { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ }:
وهي الحاجة والفقر، وهو ما ذكرنا: أنهم ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قربهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدهم بالمشركين؛ فأذلهم الله - تعالى - بذلك، وجعلهم أهل حاجة وَضِعة فيما بين المسلمين، بعد ما كانوا أهل عزّ وشرف فيما بينهم؛ وهو كقوله:
{ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ... } الآية [الأحزاب: 26].
قال الشيخ -رحمه الله -: وقد يحتمل رجوع الآية إلى خاص منهم، وهم الذين ذكر الله في قوله:
{ وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم } الآية [الأحزاب: 26] الآية، وغير ذلك مما يصير فيه المسلمون. يعرف حقيقة المراد من شهد النوازل، وعرف الأسباب التي لها جاءت البشارات.
ويحتمل: أن الله - تعالى - جعل كل حاجاتهم إلى ما يفنى؛ وهي الدنيا التي لا بقاء لها ولا منفعة في الحقيقة، فهي حاجة، ثم بما فيهم بالجهل أن ذلك فيهم حاجة.
ويحتمل: أن الله مع ما وسع عليهم الدنيا - جعل في قلوبهم خوف الفقر، وأعظم الحاجات فهي المسكنة.
وقوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ }:
وآيات الله: ما ذكرنا في غير موضع.
وقوله: { وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ }:
يحتمل وجوهاً:
يحتمل: أن أوائلهم قد قتلوا الأنبياء [بغير حق]، وهؤلاء رضوا بذلك، وإن كانوا لم يتولوا هم بأنفسهم؛ فأضاف الله - تعالى - ذلك إليهم؛ لأنهم شاركوا في صنيعهم برضاهم؛ وهو كقوله:
{ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [المائدة: 32].
ويحتمل: أن يكونوا [قصدوا قتل] محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قصدوا ذلك فكأنهم قصدوا الأنبياء كلهم، كما ذكرنا في قوله:
{ مَن قَتَلَ نَفْساً... } [المائدة: 32] الآية.
ويحتمل: أن يكونوا هموا قتل محمد صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل: أن يكون عيَّرَهُم بآبائهم؛ إذ هم قلدوهم في الدّين، فبين سوء صنيعهم بالأنبياء - عليهم السلام - ليعرفوا به سفههم وسفه كل من [قصد تقليدهم]، والله أعلم.
ويحتمل: أن يكونوا قتلوا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ فأضاف إليه، وهو كما أضاف إليه مخادعتهم المؤمنين - إلى نفسه؛ وكما أضاف نصر أوليائه إليه، وإن كان الله لا يخادع ولا ينصر؛ فعلى ذلك إضافة القتل إليه؛ لقتلهم الأتباع، والله أعلم.