التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
-آل عمران

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ }: قيل: أحسَّ: علم.
وقيل: أحسَّ: رأي؛ وهو كقوله:
{ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } [مريم: 98].
وقيل: أحسّ، أي: وجد، وهو قول الكيساني، وقيل: عرف؛ وهو كله واحد.
ثم قوله: { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }:
يحتمل - والله أعلم - أن قومه لما سألوه أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء؛ تكون لهم آية لرسالته وصدقه؛ ففعل الله - عز وجل - ذلك، وأنزل عليهم المائدة، ثم أخبر أن من كفر منهم بعد إنزال المائدة يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً، فكفروا به؛ فعلم أن العذاب ينزل عليهم؛ فأحبَّ أ ن يخرج بمن آمن به؛ لئلا يأخذهم العذاب، فقال: { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }؛ يؤيد ذلك قوله:
{ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ... } الآية [الصف: 14].
ويحتمل أن يكونوا أظهروا الإسلام له، وكانوا في الحقيقة على خلاف ذلك، فلما علم ذلك منهم، وقد همُّوا على قتله، قال عند ذلك: { مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ }؛ أحبَّ أن يكون معه أنصار مع الله ينصرونه؛ فيظهر المؤمنون من غيرهم، فنصرهم الله على أعدائهم؛ ليظهر المؤمنون من غيرهم، وهو قوله:
{ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [الصف: 14].
ومن الناس من يقول: إنه لم يكن في سُنَّةِ عيسى - عليه السلام - الأمر بالقتال، وفي الآية إشارة إلى ذلك بقوله:
{ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } [الصف: 14] أخبر أنهم أصبحوا ظاهرين على عدوهم؛ فلا يخلو إمَّا أن يكون قتالاً أو غلبة بحجة أو شيء ما يقهرهم، والله أعلم.
وقوله: { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ }:
اختلف في الحواريين:
قال بعضهم: هم القصَّارون الغسَّالون للثياب، ومبيِّضوها.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "إِنَّما سُمُّوا الحَوَارِيِّينَ؛ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ"، وكانوا يصيدون السَّمك.
وقيل: الحواري: الوزير، والناصر، والخاص؛ على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إِن لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيِّينَ، وَحَوَارِيِّي فُولانٌ وفُلانٌ" ، ذكر نفراً من الصحابة - [رضوان الله عليهم أجمعين] - وإنما أراد - والله أعلم - الناصر والوزير.
ويحتمل أن يكون سمُّوا بذلك؛ لصفاء قلوبهم، وهم أصفياء عيسى، [عليه السلام]. كذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - والله أعلم بهم.
وقوله: { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ }.
إن الله يتعالى عن أن يُنصَر، ولكن يحتمل { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ }، أي: أنصار دين الله، أو أنصار نبيه، أو أنصار أوليائه؛ تعظيماً.
وكذلك قوله:
{ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [محمد: 7]: إن الله لا يُنْصَرُ؛ ولكن يُنْصَرُ دِينُهُ أو رسلُهُ أو أولياؤه؛ وهو كقوله: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [البقرة: 9]: إن الله لا يُخَادَعُ، ولا يمكر، ولكن لما خادعوا أولياءه أو دينه، أضاف ذلك إلى نفسه؛ فعلى ذلك لما نصروا دين الله ونبيّه ووليّه، أضاف [ذلك] إلى نفسه.
وقوله: { آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } الآية:
ينقض قول من يجعل الإيمان غير الإسلام؛ لأنهم أخبروا أنهم آمنوا، وأنهم مسلمون، لم يفرقوا بينهما، وكذلك قوله:
{ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 35-36]: لم يفصل بينهما، وجعلهما واحداً، وكذلك قول موسى لقومه: { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس: 84] لم يجعل بين الإيمان والإسلام فرقاً، وهو قولنا: إن العمل فيهما واحد؛ لأن الإيمان: بأن تصدق بأنك عبد الله، والإسلام: أن تجعل نفسك لله سالماً.
وقيل: الإيمان: اسم ما بطن، والإسلام: اسم ما ظهر؛ ألا ترى أنه جاز في الإسلام الشهادة، وفي الإيمان التصديق؟!.
وقوله: { رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ }.
يعنى - والله أعلم -: بما أنزلت من الكتب السماوية التي أنزلها على الرسل جميعاً، فإن أرادوا بما أنزلت على عيسى - عليه السلام - فالإيمان بواحد من الكتب أو بواحد من الرسل: إيمان بالكتب كلها وبالرسل جميعاً، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.