التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
٣١
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ
٣٢
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
٣٣
إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ
٣٤
-لقمان

تأويلات أهل السنة

قوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ }.
وقال في موضع آخر:
{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس: 22]، قوله: (ريح طيبة) - هي النعمة التي ذكر في هذه الآية.
وقوله: { تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ ٱللَّهِ } - يحتمل وجهين:
أحدهما: لما جعل لهم الفلك بحيث تجري على وجه الماء مع أحمال ثقيلة، ومن طبعها التسرب في الماء والانحدار فيه، فجعلها بحيث تستمسك على وجه الماء وتجري؛ ليصلوا إلى حوائجهم ومنافعهم في أمكنة متباعدة ممتنعة: ما لولا السفن لم يصلوا إلى ذلك بحال.
والثاني: ما ذكر فيه من الريح الطيبة التي بها تجري السفن في البحار، وماؤها راكد ساكن؛ فتعمل تلك الريح الطيبة عمل جريان الماء وسكونه، وذلك نعمته، والله أعلم.
وقوله: { لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ }.
يحتمل آيات وحدانيته وآيات قدرته وسلطانه، وآيات نعمته: أما آيات نعمته، فما ذكر، وآيات قدرته وسلطانه: ما ذكرنا: أنه من قدرته وسلطانه أن جعل الفلك والسفن في البحار بحيث تستمسك وتحتبس، ولا تتسرب ولا تنحدر مع أحمال ثقيلة، ومن طبع ذلك كله التسرب والانحدار، وما ذكر من إجرائها بالريح الطيبة، ولو كان فِعْلَ عدد لا فعل واحد لكان يمنع عن جريها، دل أنه تدبير واحد لا عدد.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }.
جائز أن يكون الصبار هو المؤمن، والشكور كذلك، الصبر كناية عن الإيمان، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [هود: 11] ذكر الصبر مكان قوله: { آمَنُواْ }؛ لأنه ذكر في آية أخرى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [الشعراء: 227]، والشكر كناية عن الإيمان؛ كقوله: { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر: 7]، وقوله: { تَشْكُرُواْ }، أي: تؤمنوا.
ويحتمل: { صَبَّارٍ } على بلاياه، و{ شَكُورٍ } على نعمائه.
أو جعل الآيات لمن ذكر؛ لأنه هو المنتفع بها دون غيرهم.
أو { صَبَّارٍ } فيما أصابهم في البحر من الشدائد والأهوال، و{ شَكُورٍ } فيما دفع عنهم وأنجاهم من تلك الأهوال، والله أعلم.
وقوله: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَٱلظُّلَلِ }.
قال بعضهم: { كَٱلظُّلَلِ }، أي: كالظلل: هو سواد من كثرة الماء ومعظمه.
وقيل: يصير الموج كالظلمة فوق السفينة.
وجائز أن يكون الظلل التي ذكر على التمثيل لا على التحقيق؛ كناية عن حيرتهم في الدين، كقوله:
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [النور: 40]، وهو على المثال لا على التحقيق، يخبر عن حيرتهم في الدين وتيههم فيه؛ فعلى ذلك الأول.
ثم يذكر أهل التأويل أن الآية في أهل الكفر: كانوا يخلصون الدعاء لله والدين له: عندما اشتد بهم الخوف على الهلاك عند معاينتهم الأهوال والشدائد في البحار؛ لأن أهل الإسلام يخلصون له الدعاء والدين في الأحوال كلها فهي فيهم.
وقوله: { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }.
قال بعضهم: { مُّقْتَصِدٌ }، أي: حسن القول بلسانه كافر بقلبه.
وقال بعضهم: { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }، أي: عدل، أي: بقي على الإيمان والإخلاص الذي كان منه في تلك الأهوال لم يعد إلى الكفر.
وقال بعضهم: { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ }: الوسط.
العدل، وهو ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ }.
قيل: الختار: الغدار.
وقال بعضهم: الختار: هو الذي بلغ في الغدر غايته ونهايته.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ } العلي يتوجه وجهين:
أحدهما: العلو: القهر والغلبة؛ كقوله:
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 4]، أي: غلب وقهر، وقوله: { تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 83]؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون قوله: { ٱلْعَلِيُّ } أي: القاهر الغالب.
والثاني: أن يكون العلو: الارتفاع؛ فإن كان الارتفاع، فهو يرتفع ويتعالى عن أن يحتمل [ما يحتمل] الخلق من التغير والزوال وغير ذلك مما يحتمل الخلق، ارتفع وتعالى عن احتمال ما يحتمل الخلق.
والكبير، أي: تكبر من أن يلحقه شيء مما يلحق الخلق، والله أعلم.
وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ }.
يحتمل: { ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ } في الجهة التي له عليكم، وأوفوا له ذلك.
أو اتقوا مخالفة ربكم ومعصيته.
أو اتقوا نقمة ربكم وعذابه.
لكنه يختلف الأمر بالاتقاء في المؤمن والكافر: يكون للكافر: اتقوا الشرك وعبادة غير الله، وفي المؤمن: اتقوا مخالفة الله في جميع ما يأمركم وينهاكم، واتقوا عبادة غير الله أو الشرك في حادث الوقت.
وقوله:{ وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً }.
يذكر هذا على الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض: بالوصلة التي كانت بينهم في الدنيا، والمنافع التي كان ينفع بعضهم بعضا في الدنيا، يخبر أن ذلك كله منقطع في الآخرة؛ لهول ذلك اليوم، واشتغال كل بنفسه؛ حتى لا ينفع أحد صاحبه، وخاصة ما ذكر من الولد لوالده والوالد لولده، مما لا يحتمل قلب واحد منهما أن يلحق المكروه بالآخر، ولا يصبر ألا يدفع ذلك عنه بكل ما به وسعه وطاقته؛ للشفقة والمحبة التي جعلت فيهم.
ثم أخبر ألا ينفع أحدهما صاحبه؛ لاشتغاله بنفسه، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كل نسب وسبب فهو منقطع، إلا نسبي وسببي" ، ونسبه: دينه الذي دعانا إليه وعلمناه، وسببه: شفاعته يوم القيامة، فذلك كله منقطع إلا هذين؛ فإنه من تمسك بدينه فإنه يشفع [له] يوم القيامة فيما قصر وفرط، فأما من لم يقبل دينه، ولم يجبه إلى ما دعاه - فإنه ليس له واحد من هذين من الأسباب والأنساب، منقطع؛ كقوله: { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ } [البقرة: 161].
وقال بعضهم: قوله: { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ }، قال: هذه الآية في الكفار؛ فأما المؤمنون فينفع الوالد ولده، والولد والده في الآخرة: يدفع إلى ابنه بفضل عمله، وكذلك الولد إلى أبيه؛ كقوله:
{ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } [النساء: 11]، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }.
فيما ذكر من الإياس وقطع طمع بعضهم من بعض، أو ما ذكر من قيام الساعة وكونها أنها تكون لا محالة، أو في الثواب والعقاب.
وقوله: { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا }.
هذا يحتمل وجهين على التحقيق والتمثيل.
أما التحقيق: ألا تشغلنكم الحياة الدنيا ولذاتها، ولا تلهينكم عن ذكر الله وعن الآخرة، ولا تغتروا بها؛ فإنها لعب ولهو، على ما ذكر أنها لعب ولهو على ما هي عندكم؛ لأنها عندهم أنها إنما أنشئت وخلقت لها لا للآخرة، فالدنيا - على ما هي عندهم - لعب ولهو، وأما على ما هي عندنا هي حق ليس بباطل؛ لأنها أنشئت للآخرة وبلغة إليها.
وأما التمثيل: أضاف التغرير إليها؛ لأن ما كان منها من التزيين والتحسين في الظاهر وإظهار بهجتها وسرورها ولذاتها لو كان ممن له التمييز والعقل والفهم وحقيقة التزيين والتحسين كان تغريرا؛ فعلى ذلك ما كان منها على الظاهر فهو تغرير على التمثيل.
أو أن يكون ما ذكر: ألا تغتروا بالحياة الدنيا وما فيها من لذاتها، والله أعلم.
وقوله: { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ }.
قيل: الغرور: الشيطان، لا يغرنكم، ويقول: إن الله كريم رحيم جواد ولا يعذبكم.
أو يقول: إن الله غني قادر لا يأمركم بأمر ولا ينهاكم؛ إذ إنما يأمر وينهى في الشاهد من كان محتاجاً، فأما الغني فلا يأمر، أو نحوه، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ }.
ذكر في بعض الأخبار عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" ، وعدّ هذه الخمسة التي ذكرت في هذه الآية.
وكذلك روي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"خمس لا يعلمهن إلا الله؛ [ثم تلا] قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } إلى آخر الآية" . فإن ثبت هذا فهو ما ذكر، ويرجع ذلك إلى معرفة حقيقة ما ذكر؛ وإلا جائز أن يقال: إنه يعلم بعض هذه الأشياء بأعلام؛ من نحو المطر أنه متى يمطر، أو ما في الأرحام: أنه ولد وأنه ذكر أو أنثى، وإن لم يعلم ماهية ما في الأرحام؛ نحو ما يعلم المنجمة بذلك بالحساب وبأعلام، يخرج ذلك على الصدق مما أخبروا ربما؛ ألا ترى أن إبراهيم - صلوات الله عليه - قال: { إِنِّي سَقِيمٌ } [الصافات: 89] لما نظر في النجوم، أي: سأسقم. وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: إني ألقي إلى أن ذا بطن بنت خارجة جارية، وكان كما ذكر؛ فلا يحتمل أبو بكر يعلم ذلك لما ألقي إليه، ورسول الله لا يعلم الساعة؛ فإنه لا يطلع عليها أحد، إلا أن يقال بأن رسول الله لم يؤذن له بالتكلم والقول بشيء إلا من جهة الوحي من السماء، فأما الاشتغال بمثله فلا؛ لأن الاشتغال بمثله تضييع لكثير مما امتحن، وترك لبعض ما يؤمر وينهى، أو لما يخرج ذلك مخرج التطير والتفاؤل واكتساب الرزق على غير الجهة التي جعل وأبيح لهم؛ فكان المنع لذلك، والله أعلم.
ثم قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } يحتمل قوله: { عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } أي: وقت الساعة، كقوله:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأعراف: 187]، وقوله: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَٰهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَٰهَآ } [النازعات: 42-44]: أخبر أنه لا يجليها لوقتها، وذكر لرسول الله: إنك { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَٰهَا } [النازعات: 45]، فأما ما سوى ذلك فليس إليك.
أو أن يكون قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }، أي: عنده علم بماهية الساعة وأهوالها، ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها؛ فأخبر أنه يعلم هو ذلك.
وقوله: { وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ }.
سمى المطر: غيثاً، فيشبه أن يكون سماه: غيثاً؛ لما به يكون للناس غياث فيما به قوام أنفسهم ودنياهم، وسماه في موضع: رحمة، وفي موضع: مباركاً، فتسميته: رحمة؛ لما به نجاة أنفسهم وأبدانهم وذلك صورة الرحمة، وسماه: مباركاً؛ لما به ينمو ويزداد كل شيء؛ إذ البركة هي اسم كل خير ينمو ويزاد بلا اكتساب.
وقوله: { وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ }.
من انتقال النطفة إلى العلقة، وانتقال العلقة إلى المضغة، وتحوله من حال إلى حال أخرى، وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة، ونحو ذلك لا يعلمه إلا الله. وأما العلم بأن فيه ولدا وأنه ذكر أو أنثى - فجائز أن يعلم ذلك غيره أيضاً.
وقوله: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }.
جائز أن يكون كتم ذلك وأخفاه؛ ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة؛ إذ لو كان أطلعهم على ذلك - لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت؛ فيعملون بكل ما يريدون ويشاءون؛ فيكون في ذلك ارتفاع المحنة، فلبس ذلك عليهم؛ ليكونوا أبداً في كل وقت وكل حال - على حذر وخوف ويقظة، والله أعلم.
{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }.
وذكر بعض أهل التأويل
"أن رجلا من أهل البادية يقال له: الوارث بن عمرو بن حارثة ابن محارب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أرضنا أجدبت، فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى؛ فماذا تلد؟ وقد علمت أنى ولدت؛ ففي أي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم؛ فماذا أعمل غداً؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله - تعالى - في مسألة المحاربي: { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }: لا يعلمها غيره، { وَيُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلأَرْحَامِ }: من ذكر أو أنثى، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ } برة أو فاجرة { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً }: من خير أو شر، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ }: في سهل أو جبل، أو بر أو بحر { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ }: بهذا الذي ذكر كله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين السائل عن الساعة؟ فقال المحاربي: هاهنا؛ فقرأ النبي صلوات الله عليه هذه الآية" .
قال أبو عوسجة: قوله: { كَٱلظُّلَلِ }، أي: ما اسظللت به، والظلة: السحاب.
قال القتبي: { كَٱلظُّلَلِ }: جمع ظلة، يريد: أن بعضه فوق بعض؛ فله سواد من كثرته، والبحر ذو ضلال لأمواجه.
والختار: الغدار، والختر: أقبح الغدر وأشده.
وقال أبو عوسجة: الختار: الكذاب الغدار؛ يقال: ختر، يختر، خترا؛ فهو خاتر.
وقوله: { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي }، أي: لا يغني؛ تقول جزى يجزي؛ فهو جاز، أي: أغنى، وأجزى يجزي مثله، وأجزأني عن كذا وكذا، أي: كفاني، وكذلك قال القتبي.
وقال: الغرور - بنصب الغين -: الشيطان، والغرور - بضم الغين -: الباطل.