التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
٣
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
٤
يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ
٥
ذٰلِكَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
٦
ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ
٧
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ
٨
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
٩
-السجدة

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { الۤـمۤ }.
قد ذكرنا تأويله في صدر الكتاب.
وقوله: { تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ }.
الكتاب المطلق: كتاب الله، والدين المطلق: دين الله، والسبيل المطلق والطريق المطلق: سبيل الله وطريقه.
وقوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ }.
أنه منزل من الله؛ لأنه أنزل على أيدي الأمناء البررة: لم يغيروه ولا بدلوه ولا حرفوه.
أو يقول: { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أنه ليس بمخترق ولا مخترع ولا مفتري من عند الرسول؛ بل منزل من عند رب العالمين.
أو { لاَ رَيْبَ فِيهِ }: لا شك؛ على ما يقول الناس لكل محكم من الأمر مبين، والله أعلم.
{ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
العالم: هو اسم جنس من الخلق وجوهر منه، و{ ٱلْعَالَمِينَ }: جمعه؛ فيدخل في ذلك الأولون والآخرون الذين يكونون إلى آخر ما يكونون؛ ففيه أنه يوصف - جل وعلا - أنه رب لكل ما كان ويكون، ومالك ما كان وما يكون؛ كقوله:
{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4]: أخبر أنه مالكه، وهو بعد ما لم يكن، أعني: ذلك اليوم.
وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ }.
قوله: { أَمْ يَقُولُونَ } هو استفهام وشك في الظاهر، لكنه من الله يخرج على تحقيق إلزام وإيجاب أو تحقيق نفي، على ما لو كان ذلك من مستفهم ومسترشد: كيف يجاب له ويقال فيه؟ فإنما يقال للمستفهم: لا أو بلى؛ فعلى ذلك هو من الله على تحقيق إثبات وإيجاب، أو تحقيق نفي؛ إذ لا يحتمل الاستفهام والسؤال؛ كقوله:
{ أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } [النجم: 24]؛ كأنه قال: ليس للإنسان ما تمنى؛ فعلى ذلك كأنه قال - هاهنا -: بل يقولون: { ٱفْتَرَاهُ }، ثم رد ما قالوا: إنه افتراه؛ فقال:
{ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }.
يحتمل قوله: { هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ }: ليس بمخترع ولا مخترق ولا مفتري من محمد؛ بل منزل من عند الله، على ما ذكرنا في قوله: { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.
أو هو الحق من ربك، ليس بكلام البشر ولا في وسعهم إتيان مثله؛ فهو الحق منه
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ... } الآية [فصلت:42].
وقوله: { لِتُنذِرَ قَوْماً }.
أي: لتنذر بالكتاب الذي أنزل قوماً.
{ مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: على الجحد، أي: لتنذر قوماً لم يأتهم نذير، وهم أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
والثاني: لتنذر قوماً: الذين قد أتاهم من نذير من قبلك، وهم آباؤهم وأجدادهم الذين كانوا من قبله، الذين قد أتاهم نذير من قبله، والله أعلم.
وقوله: { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
هذا - أيضاً - يحتمل وجهين:
أحدهما: لتنذر قوماً؛ لكي تلزمهم به حجة الاهتداء.
والثاني: لتنذر قوماً؛ على رجاء وطمع أن يهتدوا، والله أعلم.
وقوله: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }.
هذا - أيضاً - قد ذكرناه فيما تقدم.
وقوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }.
وفي هذا - أيضاً - قد ذكرنا فيما تقدم تأويلات كثيرة، لكنا نذكر فيه حرفاً لم نذكره فيما تقدم من الذكر؛ وكأنه أصوب وأقرب إلى الحق، وهو أن ذلك حرف وكلام لم يجعل الله - تعالى - في العقول والأفهام سبيل الدرك له والمعرفة - أعني: لقوله { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } - لأنه ذكر ذلك الحرف في موضع آخر، وأمره أن يسأل به خبيراً؛ حيث قال:
{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59]، ولو كان ذلك الحرف مما لعقول البشر وأفهامهم سبيل الوصول إلى معرفته ودركه لأدركه عقل رسول رب العالمين وفهمه من غير أن يسأل به الخبير من كان: الله أو جبريل، فإذا أمره بالسؤال عنه دل أنه بالعقل والفهم لا يدرك ولا يعرف؛ ولكن بالسمع عن الله. ولم يذكر عن الرسول أنه فسر ذلك أو قال فيه أو سأله أحد عنه، والله أعلم.
وقوله: { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ }.
يقول أهل التأويل: ما لكم من دونه من ولي ينفعكم في الآخرة، ولا شفيع يدفع عنكم عذابه.
أو أن يكون قوله: { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ }، أي: رب وإله يلي أمركم سواه، { وَلاَ شَفِيعٍ }: لا هو ولا غيره، وأما للمؤمنين فإنه وليهم؛ كقوله:
{ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } [محمد: 11].
وقوله: { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ }.
فيما ذكر من صنعه؛ فتوحدونه، والله أعلم.
وقوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ }.
قال أهل التأويل: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ }، أي: هو يقضي القضاء وحده من السماء والأرض. وعندنا أنه يخرج على وجهين:
أحدهما: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ }، أي: هو يكون الأمر ويدبره.
أو هو يجعل الخلق بحيث يقبلون الأمر والنهي ويحتملون المحنة.
أو هو يخرج الأمر كله على الحكمة والتدبير.
والثاني: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ }، أي: يولي من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؛ نحو ما ولى ملك الموت قبض أرواح الخلق، ونحو ما ولى بعض ملائكته أمر الأمطار والنبات وغير ذلك؛ فجائز أن يكون الأول يولي ملائكته أمر ما بين السماء والأرض.
فإن كان الأول فليس ذكر السماء والأرض حدّاً ولا تقديراً؛ يدبر ما سوى ذلك، لكن ذكر هذا؛ لما إلى ذلك ينتهي تدبير البشر وعلمهم، وأما ما سوى ذلك فلا.
وإن كان الثاني فهو على التحديد، والله أعلم.
وقوله: { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ }.
قال بعض أهل التأويل: { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }، يقول: يصعد الملك إليه في يوم واحد من أيام الدنيا، كان مقدار ذلك اليوم، { أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }، أنتم؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام؛ فينزل مسيرة خمسمائة عام، ويصعد خمسمائة عام، وذلك مقدار مسيرة ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا.
وذكر في موضع آخر:
{ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4]؛ فجائز أن يكون ذلك وصف يوم القيامة؛ فيخرج ذلك لا على التحديد والتقدير؛ ولكن على التعظيم لذلك اليوم، والوصف له بما يعظم في قلوب الخلق، وهو ما وصفه بالعظمة؛ كقوله: { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } [المطففين: 5].
أو أن يكون التحديدان والتقديران كانا حقيقة؛ لاختلاف أحواله وأوقاته، على اختلاف الأمور، يكون ألف سنة [كما] ذكر [في] حال ووقت لأمر، وخمسين ألف سنة بحال أخرى لأمور أخر؛ على ما سمى ذلك اليوم مرة: يوم الجمع، ومرة: يوم التفريق، ويوم الفصل، ويوم الحساب، ويوم البعث، ونحوه، ومعلوم أن ذلك اليوم من أوله إلى آخره ليس بيوم الجمع، ولا بيوم الافتراق، ولا يوم الحساب ولا يوم البعث؛ ولكن [سماه] بجميع ذلك كله؛ لاختلاف الأحوال والأوقات لأمور مختلفة؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك، والله أعلم.
ويكون قوله: { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ }، أي: يصير إليه ذلك؛ كقوله:
{ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } [المائدة: 18]، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245]، { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ كُلُّهُ } [هود: 123]، ونحوه.
[وقوله: { يَعْرُجُ إِلَيْهِ }، أي: يصعد في قول القتبي وأبي عوسجة، ويعرج: أي: احتبس].
وقوله: { ذٰلِكَ }.
أي: هذا الذي صنع ما ذكر من هذه الأشياء.
{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ }.
يحتمل هذا وجوهاً:
عالم ما غاب عن الخلق والشهادة: وعالم ما يشهدون ويعلنون.
أو عالم ما يكون ويحدث، والشهادة: ما قد كان ومضى.
أو عالم ما يغيب بعض من بعض، والشهادة ما يشهدون ويظهرون.
أو عالم ما يغيب عن الخلق كيفية لمنافع الأشياء الظاهرة وماهيتها، نحو ما غاب عنهم المعنى المضر المودع في الطعام والشراب والأغذية جميعاً، الذي به حياة أنفسهم وقوامهم، وكذلك السمع والبصر والفهم والعقل: لا يدرك المعنى الذي به يسمع ويبصر ويفهم ويدرك وما به تحيا أنفسهم به، والله أعلم.
وقوله: { ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ }.
العزيز في هذا الموضع: المنتقم من أعدائه، الرحيم على أوليائه.
أو العزيز: الذي لا يعجزه شيء، الرحيم: الذي له رحمة يسع الخلائق في رحمته.
أو العزيز: الذي به يعز من عز، والرحيم: الذي برحمته يرحم من يرحم.
ومنهم من يقول في قوله: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }، وقوله:
{ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] قال: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره فوق السماوات، مقدار ذلك خمسون ألف سنة، ويوم كان مقداره ألف سنة: ذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة.
لكن قوله: من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى أمره فوق السماوات كذا - فاسد؛ لأنه لا يجوز أن يكون لأمره أو لملكه نهاية أو حد، والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله: { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }.
بالجزم والتحريك جميعاً، كلاهما لغتان.
ثم يحتمل قوله: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي: علم كل شيء خلقه: أن كيف يخلق من غير أن يعلمه أحد أو أعانه عليه أحد. وفي الشاهد لا يقدر أحد، ولا يمكن له صنع شيء إلا بمعلم يعلمه ذلك أو بمعين يعين على ذلك، يخبر عن جهلهم وسفههم بتقديرهم قدرة الله وقوته بقوى أنفسهم وقدرتهم في إنكارهم البعث؛ لخروجه عن تقدير الخلق وامتناعه عن وسعهم، يقول: لا تقدروا قدرة الله بقدرة أنفسكم وقواكم، كما لم تقدروا علمه بعلمكم؛ إذ يعلم هو بذاته بلا معلم، وأنتم لا تعلمون إلا بعلم؛ فعلى ذلك هو قادر بذاته لا يعجزه شيء وأنتم لا تقدرون إلا بغير أو سبب.
ويحتمل هذا الوجه وجهاً آخر، وهو أن قوله: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }، أي: أعلم كل شيء من خلقه: ما به مصالحهم وفسادهم، وما يؤتى وما يتقى.
والثاني: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }، أي: أحكم كل شيء خلقه وأتقنه.
ثم يخرج هذا على وجهين:
أحدهما: أتقن وأحكم فيما به من المصالح والمعاني، وفي كل شيء من التسوية والتفرد وفي الجمع والتصوير.
والثاني: أحسن، أي: أتقن وأحكم كل شيء خلقه في الشهادة على وحدانية الله وألوهيته، أي: جعل في كل أثر وحدانيته يشهد على وحدانيته وربوبيته.
وقال بعضهم: { أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } لم يخلق الإنسان في خلق البهائم وصورتها ولا البهائم في خلق الإنسان.
وقتادة يقول: كل شيء من خلقه حسن على ما خلق وعلم كيف يخلقه، وهو قريب مما ذكرنا بدءاً.
ثم من قرأه: { خَلَقَهُ }: بالجزم يكون معناه - والله أعلم - أي: أحسن خلق كل شيء ومن قرأه: { خَلَقَهُ } بالتحريك، أي: أحسن كل شيء منه وخلقه.
ثم للمعتزلة في هذه الآية أدنى تعلق يقولون: أخبر أنه أحسن كل شيء خلقه، والكفر وشتم رب العالمين ونحوه - كله قبيح وسفه؛ دل أنه لم يخلقه، وأنه ليس بخالق لذلك.
يقال لهم: إخوانكم الزنادقة يعارضونكم ويقولون: إن الخنزير والنجاسات، وجميع السباع الضارة والمؤذية، وجميع الخبائث كلها قبيحة، الله ليس بخالق لها؛ فبم تدعون قولهم وسؤالهم في ذلك؟
فإن زعمتم في الأول في الكفر والشتم وجميع فعل الشرور: أنه ليس بخلق له؛ لأنه قبيح ضارّ مؤذ - يلزمكم مذهب الزنادقة فيما يقولون ويذكرون في إثبات خالق سواه؛ لأنه قبيح ضار مؤذ.
ويقال لهم: إن الله - جل وعلا - سمى إبليس: باطلا؛ فهو إذن لم يخلقه؛ لأنه أخبر أنه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا.
ثم يقال لهم: إنا نقول: إنه خلق فعل الكفر من الكفرة قبيحاً، وخلق فعل الكفر والشتم من الشرير والشاتم قبيحاً، خلق فعل الشر على ما هو وعلى ما عرفه؛ فلا عيب يلحقه في جعل ما هو قبيح قبيحاً؛ كمن يعلم الكفر ليعلمه قبيحاً على ما هو، وكذلك جميع الشرور؛ فعلى ذلك ليس في خلق ما هو قبيح في نفسه قبيحاً - عيب؛ على ما لم يكن في تكلف معرفة القبيح ليعرفه قبيحاً على ما هو حقيقة - عيب، هذا إذا كان التأويل على ما يذهبون هم إليه. فأما إذا كان ما ذكرنا في قوله: { أَحْسَنَ }، أي: علم أو أعلم، فليس يدخل في ذلك شيء مما ذكروا، والله أعلم.
وقوله: { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ }.
قال عامتهم: يعني: آدم.
وقوله: { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ }.
أي: نسل آدم.
[{ نَسْلَهُ }: أي: ولده.
وقال: السلالة: الخالص من كل شيء].
{ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ }.
أي: آدم.
وقال بعضهم: لا؛ ولكن ذلك نعت ولده وذريته؛ لأن الأعجوبة في خلق ولده في الأرحام في ثلاث ظلمات من النطفة إن لم تكن أكثر من خلق آدم من طين لا تكون أقل؛ لأن صنع الأشياء الظاهرة البادية وتسويتها في الشاهد أيسر وأدون من صنعها وتسويتها إذا كانت غائبة مستكنة.
وظاهره: أن يكون قول: { وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ }: آدم، { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }: ذريته؛ لأن النسل هو الولد والذرية.
وقوله: { مِن سُلاَلَةٍ }: قال بعضهم: السلالة: هو الصفوة من الماء، والخالص من كل شيء.
وقال بعضهم: السلالة: هي من السل: سل السيف، أي: أخرجه ونزعه؛ فعلى ذلك قوله: { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ }، أي: استخرج من الظهر وسل منه ونزع.
والمهين: هو الضعيف؛ يقال منه: مهن يمهن مهانة، فهو مهين، وهو قول أبي عوسجة والقتبي.
وقوله: { ثُمَّ سَوَّاهُ }.
أي: جمعه وقومه وركب بعضه ببعض.
{ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ }.
وهو من الريح، وبالنفخ يتفرق في الجسد؛ لذلك ذكر، والله أعلم.
وقوله: { ثُمَّ سَوَّاهُ } يحتمل ما ذكرنا من تركيب الجوارح والأعضاء.
أو سواه وجعله بحيث يحتمل المحنة والأمر والنهي.
{ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ }، أي: جعل فيه الروح، وذكر النفخ لما ذكرنا على تحقيق النفخ فيه، والله أعلم.
وقوله: { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ }.
ذكر - جل وعلا - جميع ما يوصل إلى العلوم الغائبة والحاضرة جميعاً، ويدرك ويوجد السبيل إليها وهو السمع والبصر والقلب في الإنسان؛ لأنه بالسمع يوصل إلى ما غاب عنهم من العلم: يسمعون ما عند غيرهم، وكذلك بالبصر يرى ويبصر ما عند غيره، وبالقلب يفهم ويحفظ ويميز بين ما يؤتى ويتقى، يبين أنه قد أعطاهم ما به يدركون ويصلون إلى ما غاب عنهم ويفهمون ويميزون، وهو ما ذكر من الحواس.
ثم قال: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }.
قال أهل التأويل قوله: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }، أي: لا تشكرون قط؛ لأنهم يقولون: إنما خاطب به أهل مكة.
أو أن يقال: إنهم يشكرون قليلا، لكنهم يفسدون وينقضون ما يشكرون بكفرانهم من بعد.
وأما أهل الإسلام وإن كان شكرهم لما ذكر من هذه الحواس قليلا فإنهم قد اعتقدوا - في أصل العقد - الشكر له في جميع نعمه، والكافر اعتقد الكفران له؛ وإلا يجئ أن يكون قوله: { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } للمؤمنين ولهم يقال ذلك لا للكفرة، والله أعلم.