التفاسير

< >
عرض

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً
٣٦
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٣٧
مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً
٣٨
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً
٣٩
مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً
٤٠
-الأحزاب

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قال جعفر بن حرب المعتزلي: دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه الله؛ لأنه لو كان مما قضاه الله لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير، فإذا قال: إنه إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة، دل أنه مما لم يقضه الله، لكن يقول: إن القضاء - هاهنا - ليس هو قضاء الخلق؛ على ما فهم هو، ولكن القضاء - هاهنا - الأمر أو الحكم؛ كقوله: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23] أي: أمر ربّك وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه.
أو أن يكون الحكم؛ كقوله:
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [النساء: 65] أي: مما حكمت؛ فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم؛ على ما ذكرنا، فيكون كأنه قال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً }، أي: إذا أمر الله ورسوله أمراً، وإذا حكم الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمرهم، وهكذا يكون فيما أمر الله ورسوله بأمر أو حكم يحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك.
ومما يدل - أيضاً - على أن القضاء أيضاً - هاهنا - ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة؛ حيث أضاف ذلك إلى رسوله - أيضاً - حيث قال: { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً }، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق؛ دل أن المعتزلة أخطأت وغلطت في فهم ذلك، وقصرت عقولهم عن درك ذلك، وأن التأويل ما ذكرنا نحن.
ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } إنما نزل في زينب بنت جحش؛
"يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعتق زيد بن حارثة وتبناه، وكان مولى له، فخطب له زينب بنت جحش، فقالت زينب: إني لا أرضاه لنفسي وأنا من أتم نساء قريش - وكانت ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب - فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد رضيته لك، فزوجي نفسك منه فأبت ذلك؛ فنزل قوله فيها: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }" ، لكن إذا كان على ما يذكرون من الخطبة لها؛ فلا يحتمل أن يجبرها على النكاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البكر تستأمر في نفسها، والثيب تشاور" ، ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن لا ترضاه إلا أن يكون على الأمر من الله - تعالى - ومن رسوله، فعند ذلك لا يكون لها التخير في ذلك؛ لأن الله [له] أن يأمر من شاء على النكاح ممن شاء، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء، وليس لهم الخيرة في ذلك، فأمّا بالخطبة نفسها دون الأمر والحكم من الله لا جبر في ذلك؛ "ألا ترى أنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب أمّ سلمة، فقالت: إن أوليائي غيب، فقال: ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي" أو كلام نحوه خطبها، ولم يجبرها على ذلك؛ فعلى ذلك زينب؛ إلا أن يكون على الأمر أو الحكم؛ على ما ذكرنا.
أو أن يكون سبب نزول الآية - فيما ذكر أهل التأويل - في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره: فيما فيه أمر من الله أو حكم؛ نحو
"ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفجر، فرأى رجلين جالسين، فقال لهما: ما بالكما لم تصليا معنا؟ فقالا: إنا قد صلينا في رحالنا، فقال: إذا صليتما، ثم أتيتما المسجد، فصليا معهم؛ فتكون لكما سبحة" ، وإنما قال: "فصليا معهم" لا في صلاة الفجر، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها.
وقوله: { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً }: إن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال هو الخطأ؛ كأنه قال: فقد أخطأ خطأً بيناً، ويجوز هذا في اللغة، نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليهم؛ حيث قالوا:
{ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [يوسف: 8] أي: في خطأ بين؛ حيث يفضل من لا منفعة له منه على من له منه منفعة؛ فعلى ذلك هذا.
وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بين، فالضلال من المؤمن لا يفهم [منه] ما يفهم من الكافر والمنافق؛ ألا ترى أن الظلم من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر؛ ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا وقربا تلك الشجرة قالا:
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [الأعراف: 23] لم يريدا ظلم كفر، وعلى ذلك قوله: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 35] فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر، والله أعلم.
وقوله: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قال أهل التأويل: أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالإعتاق؛ حيث أعتقه؛ لأنه ذكر أن زيداً كان عربيّاً من أهل الكتاب، أصابه النبي صلى الله عليه وسلم من سبي أهل الجاهلية، فأعتقه وتبناه، فأنعم الله عليه حيث أعطاه الإسلام، ووفقه الهدى، وأنعم عليه الرسول حيث أعتقه.
ويحتمل إنعام الله عليه - أيضاً - في الإعتاق؛ حيث وفق رسوله للعتاق، أو في خلق فعل الإعتاق من رسوله وإجرائه إليه، وعلى قول المعتزلة: ليس لله على زيد ولا على جميع المسلمين في الإسلام إنعام ولا إفضال؛ لوجوه:
أحدها: أنهم يقولون: قد أعطى كلاًّ سبب ما يلزمهم الإسلام وهو القوة؛ فهم إنما يسلمون لا بصنع من الله في ذلك؛ فعلى قولهم: كان من الله سبب لزوم الإسلام، فأمّا في الإسلام نفسه فلا صنع له فيه، فإذا كان كذلك فلا منة تكون منه عليهم ولا إنعام.
والثاني: يقولون: أن ليس لله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدّين، ولا شك أن الإسلام لهم أصلح؛ فعليه أن يفعل ذلك بهم، فهو فعل ما عليه أن يفعل، ولا يجوز أن يفعل غيره، ومن أدى حقا عليه لا يكون في فعله منعماً ولا مفضلا؛ إنما هو مؤدي حق عليه.
والثالث: يقولون: أن ليس من الله إلى الأنبياء والمؤمنين جميعاً شيء إلا وقد كان ذلك منه إلى إبليس وأتباعه وإلى جميع الفراعنة، فإذا كان قولهم ومذهبهم ما ذكرنا - لم يكن لله على أحد من أهل الإسلام في إسلامهم إنعام ولا إفضال، والله أخبر أن له عليهم في ذلك نعمة ومنة، وكذلك فهم منه ذلك في قوله:
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ... } [الحجرات: 17] إلى { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [الحجرات: 17].
وقوله: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ }.
ذكر بعض أهل التأويل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبصر امرأة زيد فأعجبته وودّها، ففهم زيد ذلك منه؛ فقال: يا رسول الله، إني أريد أن أطلق فلانة، وإن فيها كبرا تتعاظم عليّ وتؤذيني بكذا؛ فعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } في طلاقها، ولا تطلقها، لكن لا نقول نحن شيئاً من ذلك إلا بخبر ثبت من رسول الله يخبر أنه كان ذلك.
وجائز أن يكون زيد استأذن رسول الله في طلاقها، على ما يطلق الرجل امرأته؛ لما يمل منها بلا سبب يكون؛ فقال له عند ذلك: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ }، ولا تطلق زوجك بلا سبب يستوجب به الطلاق؛ لأنه لا يسع للرجل أن يطلق زوجته بلا سبب يحمله على الطلاق من تضييع حدود الله، وترك إقامتها، أو معنى نحوه، فأما بلا سبب يكون في ذلك فلا يسع.
أو أن يكون قوله: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ }، أي: تزوجها واتق الله في ترك تزوجها؛ فيكون هو مأموراً بنكاحها، كما كانت هي مأمورة بتزويجها نفسها منه، فيقول: اتق الله في ترك الأمر للنبي ذلك في ترك ما ندبت إليه وأمرت به، والله أعلم.
وقوله: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ }.
قال عامة أهل التأويل: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } حبّها وإعجابها، { مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ }، أي: ما الله مظهره في القرآن، أي: حبها وتزوجها.
وقال قائلون: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } يا محمد: ليت أنه طلقها، { مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ }، أي: مظهره عليك، حتى ينزل به قرآناً.
لكن هذا بعيد محال؛ لا يحتمل أن يكون النبي يقول لزيد: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ }، ثم يخفي هو في نفسه: ليت أنه يطلقها؛ حتى يتزوجها هو.
وجائز أن يكون قوله: { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } هذا القول نفسه، هو الإبداء؛ حيث جعله آية تتلى بعد ما أخفى رسول الله شيئاً في نفسه: ما لولا ذكر الله إياه ذلك لم يعلم الخلق أنه أخفى شيئاً، ولا ندري ما الذي أخفاه كذا وكذا إلا بخبر يجيء عنه، فيقول: إني أخفيت في نفسي كذا؛ فعند ذلك يسع، فأمّا على الوهم فلا نقول به.
وقوله: { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ }.
قال بعضهم: { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ }، أي: تستحي قالة الناس: "إنه تزوج امرأة ابنه"؛ وتترك نكاحها، والله أحق أن تستحي منه في ترك أمره إياك بالنكاح.
وقال بعضهم: { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ }، أي: تتقي قالة الناس؛ تستحي منهم في أمر زينب وما أعجبت هي إليك حسنها وحبها، { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } على الابتداء على غير إلحاق بالأول في كل أمر وكل شيء؛ كقوله:
{ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي } [البقرة: 150]، والله أعلم.
وقوله: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا }.
قال أهل التأويل: { قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } أي: حاجة، أي: جماعاً؛ فإن كان الجماع - ففائدة ذكر الجماع فيه؛ ليعلم أن حليلة ابن التبني تحل للرجل، وأن الوطر هو عقد النكاح والجماع جميعاً، وإن كان كل واحد منهما سبب الحظر والمنع في نكاح حليلة ابن الصلب.
وجائز أن يكون قوله: { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً }، أي: قضى همة نفسه، وبلغ غاية ما همت نفسه منها؛ فعند ذلك زوجناكها.
ذكر أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على سائر أزواج النبي، فتقول: "زوجكن آباؤكن رسول الله، والله زوجني بنبيه فوق سبع سماوات؛ ففيه دلالة رسالته؛ لأنه أخفى في نفسه ما كان يخشى قالة الناس في ذلك واستحى منهم، وفي العرف أن من أخفى شيئاً يستحي من الناس إن ظهر عندهم أن يكتم ذلك من الناس ولا يظهره، فإذا كان رسول الله أظهر ما كان يخشى قالة الناس فيه، ولم يكتمه منهم؛ دل أنه رسول؛ إذ لو كان غير رسول، لكتمه وأخفاه ولم يظهره؛ لما ذكرنا من العرف في الناس من كتمان ما يستحيون منهم إذا ظهر.
وكذلك روي عن عمر وعائشة أنهما قالا: "لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من القرآن، لكتم هذه الآية".
وقوله: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً }.
في الآية دلالة لزوم الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر ويأمر به، وفي كل فعل يفعله في نفسه، إلا فيما ظهرت الخصوصية، فأما فيما لم تظهر فعلى الناس اتباعه فيما يخبر ويفعل؛ لأنه قال: تزوج امرأة دعيّه، ثم قال: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ }، ولو كان يخبرهم بذلك خبرا لحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك: هو ذلك أخبر أن ذلك؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في مثل فعله، والله أعلم. وفيه وجه آخر.
وقوله: { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً }، ذكر قضاء الوطر منهن؛ لأن من النساء من لا يحرمن على بعض هؤلاء بالعقد، ولكن إنما يحرمن بقضاء الوطر، ومنهن من يحرمن بالعقد نفسه دون قضاء الوطر؛ فأخبر أن أزواج الأدعياء - وإن قضوا منهن الوطر - فإنهن لا يحرمن عليهم، والله أعلم.
وقوله: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }.
أي: ما كان بأمر الله مفعولا، وكذلك ما قيل: الصلاة أمر الله؛ أي: بأمر الله تكون؛ وإلا الصلاة هي فعل العباد؛ فلا تكون أمر الله، ولكن بأمر الله، فعلى ذلك قوله: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً }، أي: ما يكون بأمر الله مفعولا، وكذا قوله:
{ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [الحديد: 14]، أي: جاء ما يكون بأمر الله، وهو العذاب الذي أوعدوا؛ لأن أمر الله لا يجيء.
ثم يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: التكوين: يكونه؛ فيكون مكوناً؛ كقوله:
{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40].
والثاني: على الإيجاب واللزوم، أي: ما يكون بأمر الله يكون واجباً لازماً؛ إذا أراد به الإيجاب والإلزام، والله أعلم.
وقوله: { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: { فَرَضَ ٱللَّهُ }، أي: بين الله؛ كقوله:
{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [النور: 1]، أي: بيناها.
ويحتمل { فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ }، أي: أوجب الله عليه، ويقال: فرض عليه، أي: حرم، وفرض له، أي: أحل له، وكذلك قوله:
{ قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [التحريم: 2] يحتمل هذا وجهين:
أي: بين لكم تحلة أيمانكم.
والثاني: أوجب عليكم تحلة أيمانك، والله أعلم.
وقوله: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ }.
قال بعضهم: هكذا كان سنة الله فيمن كان قبله من الرسل - مثل داود وسليمان وهؤلاء - كثرة النساء، ليس ذلك ببديع في رسول الله محمد. وفي كثرة نساء الرسل لهم آية عظيمة؛ لأنهم آثروا الفقر والضيق على السعة والغناء، وكفوا أنفسهم عن جميع لذاتها، وحملوا على أنفسهم الشدائد في العبادات والأمور العظام الثقيلة، وهذه الأشياء كلها أسباب قطع قضاء الشهوات في النساء والحاجة فيهن؛ فإذا لم تقطع تلك الأسباب عنهم؛ دل أنهم بالله قووا عليها.
وقال بعضهم: سنة الله في الذين قبل محمد، يعني: داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها، فجمع الله - تبارك وتعالى - بين داود وتلك المرأة؛ فكذلك يجمع بين محمد وبين امرأة زيد؛ إذ هويها كما فعل بداود، لكن هذا بعيد.
وقيل: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ }: أنه لا يحرج على أحد فيما لم يحرم.
وجائز أن يكون { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } - في حل نكاح أزواج الأدعياء، كان يحل لهم ذلك؛ فعلى ذلك لرسول الله، والله أعلم.
وقوله: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً }.
هو ما ذكرنا في قوله: { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي: ما كان بأمر الله وتقديره مقدورا.
قال أبو عوسجة: الدعي: الذي يدعى بعدما يكبر، والادعاء أن يكون الرجل نفى ولده ولم يقبله، ثم ادعاه من بعد ذلك، هذا هو المعروف عندي.
قال: وفي موضع آخر:
{ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [يس: 57]، أي: ما يتمنون ويشتهون، ويقال: "ظللنا اليوم فيما ادعينا" أي: وجدنا كل ما اشتهينا، يقال من هذا: ادعيت أدعي ادعاء. وقال: الوطر: الحاجة، والأوطار: جميع، والخيرة، أي: صيرت إليهم الخيرة، وهو من قولك أي: شيء تختار؟ { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } [القصص: 68]، أي: لم يجعل إليكم الاختيار: إن شئتم فعلتم، وإن شئتم لم تفعلوا، والقنوت في الأصل: القيام؛ على ما ذكرنا.
وقوله: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ }.
يقول أهل التأويل: هو محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ فمعناه - والله أعلم - إن كان هو المراد به: أنه فيما تزوج حليلة دعيه زيد مبلغ رسالات ربه، حيث قال: { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ }، وتبليغ الرسالة يكون مرة بالخبر والقول، ومرة بالفعل، يلزم الناس في اتباعه في فعله كما يلزم في خبره وأمره، إلا فيما ظهرت له الخصوصية في فعل ما.
وجائز أن يكون قوله: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } هم الأنبياء الذين قال: { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [الأحزاب: 38] نعتهم، وقال: { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ }: فسنة الله في محمد صلى الله عليه وسلم كسنة أولئك الذين كانوا من قبل فيما ذكر، { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ }، يقول - والله أعلم -: يخشون الله في ترك تبليغ الرسالة، ولا يخشون أحداً سواه في التبليغ، ويكون قوله: { إِلاَّ ٱللَّهَ }، بمعنى: سواه؛ على المبالغة في الأمر، وإلا لو قال: { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } كافياً، أي: لا يخشون أحداً فيما يبلغون، لكن يحتمل ما ذكرنا: ألا يخشوا أحداً فيما يبلغون سواه.
وجائز أن يكون قوله: { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } بما يصيبهم من الأذى والبلاء بالتبليغ، يقول: لا يرون ذلك من أولئك، ولكن بتقدير من الله إياه؛ وإلا كانوا يخافون من أولئك؛ ألا ترى أنهم قالوا:
{ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } [طه: 45]، وحيث قال موسى: { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [الشعراء: 14]، و { أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [الشعراء: 12] ونحوه.
أو أن يكون في الابتداء خافوهم، ثم أمنهم الله؛ فلم يخافوا؛ حيث قال:
{ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [طه: 46]، والله أعلم.
وقوله: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }.
قيل: شهيداً على تبليغ الرسالة.
وقوله: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ }.
معناه - والله أعلم -: ما كان محمد صلى الله عليه وسلم أبا أحد أبوة تحرم بها حلائل الأبناء، وإلا كان هو أبا لجميع المؤمنين؛ حيث قال:
{ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [الأحزاب: 6] إذا كانت أزواجه أمهاتنا؛ فهو أب لنا على ما ذكرنا.
لكن التأويل فيه: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أبوة تحرم بها حلائل الأبناء؛ ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل، وأبوة الشفقة والرحمة، وهو ما قال:
{ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ... } الآية [الحجرات: 2].
وكذلك قوله:
{ ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6] يحتمل وجهين:
أولى أن يعظم ويكرم ويشرف من [غيره]، كقوله:
{ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ } [الفتح: 9].
والثاني: { أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ }، أي: أشفق عليهم وأرحم بهم من أنفسهم، وهو ما وصفه - جل وعلا - من رحمته ورأفته؛ حيث قال:
{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128].
وقوله: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } يخرج على وجهين:
أحدهما: في حق الانتساب إليه، أي: ليس هو أبا أحدكم ينسب إليه ويدعى به؛ لأنه ذكر أنهم يدعونه ويسمونه: زيد بن محمد، أنه يجوز التبني ولا يجوز إليه النسبة ولا التسمية به؛ كقوله:
{ ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [الأحزاب: 5].
والثاني: في حق الحرمة؛ كأنه قال: ليس هو أبا أحدكم في حرمة حلائل الأبناء عليه لا بالتبني، ولا في حق النسبة، وإن كان هو أبا لكم في الشفقة والرحمة والرأفة، على ما ذكرنا بدءاً ولكن رسول الله ما ذكرنا في التعظيم له والتبجيل في المعاملة والمصاحبة، أو في الدعوة به والتسمية.
وقوله: { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ }.
أخبر ليس بأبي أحد من رجالكم، على ما ذكرنا، ولكن رسول الله؛ لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم، ولا يصاحبوه صحبة غيره؛ ولكن يعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام؛ لأن أبوته وشفقته دينية، وشفقة الآباء شفقة دنياوية، ولأن الرجل قد يتبسط مع والده في أشياء لا يسع مثله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا قال: { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ }، أي: ختم به الرسالة لا نبي بعده.
وقوله: { وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ }.
جائز أن يكون ذكره وإخباره: أنه خاتم النبيين؛ لما علم - جل وعلا - أنه يسمى غيره بعده نبيّاً؛ على ما قالته الباطنية: إن قائم الزمان هو نبي؛ فأخبر بهذا أن من ادّعى ذلك لا يطالب بالحجة والدلالة؛ ولكنه يكذب؛ وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا نبي بعدي" أخبر أنه ختم به النبوة.
وقوله: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً }، أي: لم يزل الله بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما.