التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً
٦
-الأحزاب

تأويلات أهل السنة

قوله: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }.
يقول بعض أهل التأويل كذلك: إنها نزلت في رجل يقال [له]: أبو معمر، وكان من أحفظ الناس وأوعاهم؛ فقالوا: إن له قلبين: قلب يسمع، وقلب يحفظ ويعي؛ فنزل: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }.
ويقول بعضهم كذلك: إنها نزلت في أبي معمر، وكان يسمى: ذا قلبين؛ لحفظه الحديث، حتى إذا كان يومُ بدر، وهُزم المشركون - وفيهم أبو معمر - يلقاه أبو سفيان بن حرب، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله؛ فقال: يا أبا معمر، ما فعل الناس؟ قال: انهزموا، فقال: ما بال نعلك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال: ما شعرت إلا أنهما جميعاً في رجلي؛ فعرفوا يومئذ أنْ لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده. ونحوه قد قيل، ولكن لا ندري ما سبب نزول هذا.
وروي عن ابن عباس: أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوماً، فخطر خطرة - أي: وقع في قلبه - فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين: قلبا معكم، وقلبا معهم؛ فأنزلت هذه الآية.
وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية، أو أن يكون نزولها في المنافقين، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم، ويقولون:
{ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [المنافقون: 1]، ثم يرجعون إلى أولئك فيقولون: { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة: 14] ونحوه؛ فذكر هذا: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }، أي: دينين في جوفه: الإيمان والنفاق، أو { قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }: قلبا لهذا، وقلبا للآخر.
أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية لله، وأنّه هو الخالق؛ كقوله:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان: 25]، ويعبدون الأصنام مع هذا؛ فيقول - والله أعلم -: لم يجعل لرجل قلبين في جوفه: قلباً للشرك، وقلباً للإيمان والتوحيد؛ ولكن جعل قلباً واحداً لأحد هذين، أي: قلباً لقبول الشرك، وقلبا لقبول الإيمان.
وبعضهم يقول: هو على التمثيل، أي: كما لم يجعل لرجل واحد قلبين؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته: لا تكون امرأته أمه في الحرمة، ولا يكون دعيّ الرجل ابنه، يقول: نزلت في النبي وزيد بن حارثة، كان النبي تبناه، [و]كانوا يسمونه زيد بن محمد، فجاء النهي عن ذلك؛ فقال: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل.
وبعضهم يقول: تأويل قوله: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }.
أي: لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما.
وأصله عندنا: أن قوله: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }: ما ذكرنا، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات، أي: لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع. { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }، أي: لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعاً، ونحو النكاح الفاسد، والملك الفاسد، لم يجعل كذا، أي: لم يحل ولم يشرع؛؛ كقوله:
{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } [المائدة: 103]، أي: لم يشرع ولم يحل ذلك، وإن كان يكون لو فعلوا؛ فعلى ذلك قوله: { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ }، أي: لم يشرع ذلك السبب، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب، على ما ذكرنا: أن النسب ثبت في النكاح الفاسد، وإن لم يشرع.
والحسن يقول في قوله: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال: كان الرجل يقول: إن نفسا تأمرني بكذا ونفسا تأمرني بكذا؛ فنزل ذلك.
والحكمة فيما لم يجعل لواحد قلبين، وجعل له سمعين وبصرين؛ لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة، فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضاً، وما يدرك بالقلب إنما يدرك بالاجتهاد، وقد يختلف القلبان فيما يجتهدان في شيء، فيناقض أحدهما صاحبه؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وأما السمعان والبصران لا يكون كذلك.
وقوله: { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }: جائز أن يكون سبب ذلك ما ذكر من ادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة لنفسه وتواطؤ أصحابه على ذلك، يقول - والله أعلم -: ما جعل الله أن يرسل رجلين رسولا إلى خلقه مختلفي الدينين متضادّي الشرائع، يدعو كل واحد إلى دين غير الآخر، وإلى شريعة يضادّ بعضها بعضاً: محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسيلمة الكذاب.
وقوله: { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ }: يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: على النهي الذي ذكرنا، أي: لا تشبهوا أزواجكم بظهور الأمهات، ولا تحرموهن على أنفسكم كحرمة الأمهات؛ ولذلك قال:
{ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } [المجادلة: 2].
والثاني: أن لم يجعل الله لكم أزواجكم حراماً أبداً كالأمهات، وإن جعلتم أنتم؛ ولكن جعلهن لكم بحيث تصلون إليهن بالاستمتاع على ما تصلون إليهن وتستمتعون بهن، بعد هذا القول؛ يذكر هذا على المنة والنعمة؛ ليتأدى به شكره؛ لما أبقى لهم الاستمتاع بهن بعد هذا، ولم يجعلهن لهم كالأمهات، على ما ذكر، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ }، أي: ما جعل أدعياءكم أبناءكم في الحقوق إلى الآباء، وهو ما ذكر في بعض القصة: أنه إذا ادعى الرجل منهم ورثة منهم مع أولاده - وهو شيء كانوا يفعلونه في الجاهلية - دعي إليه ونسب، يقول - والله أعلم -: ما جعل ما كنتم تدعون الأبناء في الجاهلية للعون والنصرة أبناءكم في الإسلام فيما جعلوا.
والثانى: ما جعل أدعياءكم في حق النسبة، كما ذكر أنهم يقولون لزيد بن حارثة: زيد بن محمد.
{ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ }:
إنما هو قول تقولونه بألسنتكم فيما بينكم.
{ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ }:
إنهم ليسوا بأبنائكم.
أو أن قوله: { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ }، تأويله: { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ }:
أعدل عند الله، أي: انسبوهم إليهم إن علمتموهم.
{ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }.
قال بعض أهل التأويل: فانسبوهم إلى أبيهم من أسماء مواليكم أو إخوانكم أو ابن عمكم، مثل عبد الله وعبيد الله، وعبد الرحمن، وأشباه ذلك الأسماء وأسماء مواليكم.
أو أن يقول: قوله: { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ }، أي: سموهم: إخوانا، وذلك أعظم في القلوب وآخَذُ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم؛ وذلك أن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة، فأما عند الحضرة فلا.
وقوله: { وَمَوَالِيكُمْ }، قال بعضهم: نزل هذا في شأن زيد بن حارثة، وهو كان مولى رسول الله، وكانوا يسمونه: زيد بن محمد؛ فنهوا عن ذلك، فيقول: فإن لم تعلموا آباءهم فانسبوهم إلى مواليهم.
وجائز أن يكون قوله: { وَمَوَالِيكُمْ } من الولاية، كقوله:
{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة: 71]، وقال: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10].
وقوله: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ }.
يقول - والله أعلم -: ليس عليكم جناح بالنسبة إلى غير الآباء إذا كنتم مخطئين غير عارفين للآباء؛ إنما الجناح والحرج عليكم إذا كنتم عامدين لذلك عارفين لهم آباء؛ كأنه أباح التبني والتآخي فيما بينهم، ولم يبح النسبة إلى غير الآباء وإيجاب الحقوق فيما بينهم.
وكذلك روي في بعض الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين الرجلين، وإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله، فكان الزبير أخا عبد الله بن مسعود، فمكثوا بذلك ما شاء الله أن يمكثوا، حتى نزلت الآية.
وقال بعضهم: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ }، يقول: إذا دعوت الرجل لغير أبيه، وأنت ترى أنه كذلك.
{ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
يقول: لا تدعوه لغير أبيه متعمداً، فأما الخطأ فإن الله يقول: لا يؤاخذكم به، ولكن ما أردتم به العمد، وهو مثل الأول.
وذكر أن عمر - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول: اللهم اغفر لي خَطَايَ؛ فقال له عمر: "استغفر الله العمد؛ فأمّا الخطأ فقد تجوز لك عنه"، وكان يقول: "ما أخاف عليكم الخطأ؛ ولكن أخاف عليكم العمد، وما أخاف عليكم العائلة؛ ولكن أخاف عليكم التكاثر، وما أخاف علكيم أن تزدروا أعمالكم؛ ولكن أخاف عليكم أن تستكثروها".
وذكر أن ثلاثاً لا يُمْلك عليها ابن آدم: الخطأ والنسيان والاستكراه، وكذلك روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال ذلك.
وقال بعضهم: الخطأ - هاهنا - هو ما جرى على اللسان من غير قصد، والعمد ما يجري على قصد، وهو ما ذكرنا، والله أعلم.
{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.
لما فعلوا.
وقوله: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }.
قال بعضهم: النبي أولى بهم من بعضهم ببعض؛ كقوله:
{ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [النساء: 29]، أي: لا يقتل بعضكم بعضا؛ إذ لا أحد يقتل نفسه، { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [النور: 61]، أي: يسلم بعضكم على بعض، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه؛ ولكن ما ذكرنا؛ فعلى ذلك قوله: { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }، أي: بعضهم من بعض.
ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم، أي: هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره.
أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم، أي: أرحم بهم وأشفق من أنفسهم، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة؛ حيث قال:
{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128] وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم.
أو أن يجوز أولى بهم:، أي: أحبّ إليهم من أنفسهم وأولادهم، محبة الاختيار والإيثار، ليس محبّة الميل: ميل القلب؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع.
وذكر في الخبر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحبّ إليه من نفسه وولده وأهله" أو كلام نحو هذا.
أو أن يكون
{ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [النساء: 135] في الآخرة بالشفاعة لهم، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم، والله أعلم. وذكر في بعض الحروف: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه أمهاتهم }: وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهم.
قوله: { وهو أب لهم } في الرحمة والشفقة، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه.
وقوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }.
قال أهل التأويل: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }: في الحرمة؛ أي: لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبداً كالأمهات، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته، فأمّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره؛ لأنه قال:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا... } الآية [الأحزاب: 28]، ولو لم يحللن لغيره، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت، وهو ما قال: { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً }: إنما شرط هذا بعده؛ ليكن أزواجه في الآخرة.
أو أن يكون قوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }، أي: حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول الله ومنزلته قبلهم.
وأما الباطنية فإنهم يقولون: في قوله: { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن، ولو كن أمهات لم تحل؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات؛ فإذا حلّ ذلك دل أنه ما ذكرنا، هذا قولهم.
لكن الجواب لذلك ما ذكرنا: أنه جائز أن سمّاهن: أمهات، أي: منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات؛ لحرمة رسول الله ومنزلته؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده، وإن كانوا في الحقيقة موتى؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند الله، فعلى ذلك ذِكرُ الأمهات لأزواجه ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }.
قال بعضهم: { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }: في حكم الله؛ كقوله:
{ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء: 24]، أي: حكم الله عليكم.
وقال بعضهم: { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }: فيما أنزل من الكتاب، وهو الذي ذكر، وكذلك:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ... } [البقرة: 180] إلى آخر ما ذكر: المكتوب عليهم: الذي ذكر على أثره.
ثم اختلف في تأويل قوله: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ }:
قال بعضهم: إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام، فإن كان مؤمناً لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين؛ فعند ذلك يتوارثون؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ }: الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن تُوصوا لهم شيئاً، فيقول قائل هذا التأويل: إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال، وهو قوله:
{ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ... } الآية [الأنفال: 75]، ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين.
وأمّا الكافر فإنه لا يرث المسلم، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال:
"لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" ، وقال: "لا يتوارث أهل ملتين" .
وقال بعضهم: تأويل قوله: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } من الأقربين منهم، أي: أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم، { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } من الأبعدين في المواريث أي: الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين.
{ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً }.
على هذا التأويل يكون قوله: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ }: الأبعدين { مَّعْرُوفاً }: وصية أو شيئاً، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم.
وبعضهم يقول: إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة؛ لأن النبي كان يؤاخي بين رجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر؛ فعلى ذلك يكون قوله: { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفاً.
ثم اختلف في أولي الأرحام المذكورين في الآية:
قال بعضهم: هم الذين ذكرهم في قوله:
{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ... } [النساء: 11] إلى آخر ما ذكر.
وقال بعضهم: ليسوا هم؛ وإنما الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حدّ مواريثهم، فأمّا غيرهم فإنما هم في قوله: { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، وكذلك يقول أبو حنيفة -رحمه الله -: إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم، ليس كالعصبات؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم.
وقوله: { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً }.
قال بعضهم: في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث من الذين كانوا يتوارثون.
وقال بعضهم: { فِي ٱلْكِتَابِ }، أي: في التوراة مكتوباً: أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفاً؛ ليعود الغني على الفقير، والله أعلم.