التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ
٥١
وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٢
وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ
٥٣
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ
٥٤
-سبأ

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ }، اختلف فيه:
قال بعضهم: وذلك أنهم بعثوا بعثين قاصدين تخريب الكعبة، فلما بلغوا البيداء خسف أحدهما والآخر ينظر وينفلت منهم مخبر، فيحول وجهه في فقاه فيخبرهم بما لقوا؛ وذلك قوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ } من الخسف والعذاب { فَلاَ فَوْتَ } عن عذاب الله { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ }.
أو من تحت أقدامهم يخسف بهم الأرض؛ وعلى ذلك يخرج قوله: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ: 54] من تخريب الكعبة كما فعل بأشياعهم من قبل، وهم أصحاب الفيل؛ وعلى ذلك روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنه يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فلا ينفلت منهم إلا واحد يخبر عنهم، قالت: يا رسول الله، وإن كان فيهم المكره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعثون على نياتهم" .
وقال بعضهم: قوله: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } وهو عند الموت يفزعون منه، ولا فوت لهم عنه، { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي: على المكان.
والحسن يقول: { فَزِعُواْ } من القبور { فَلاَ فَوْتَ } يقول: أخذوا عند ذلك وهو المكان القريب.
وقال بعضهم: ذلك عند القيامة يفزعون عند معاينتهم العذاب، وأفزعهم ذلك ولا يفوتون الله.
{ وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ }.
وهو كقوله:
{ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ... } الآية [غافر: 84]؛ وكقول فرعون حين أدركه الغرق: { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } [يونس: 90]، ونحوه.
وقوله: { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }.
قال بعضهم: { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أنهم سألوا الرجعة والرد أن ينالوه من مكان بعيد؛ قالوا: من الآخرة إلى الدنيا.
وقال بعضهم: أي: لا سبيل لهم إلى الإيمان في ذلك الوقت، وقد كفروا به من قبل في حال الدعة والرخاء فلم يؤمنوا.
وقال بعضهم: { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }، أي: من حيث لا ينال ولا يكون؛ فذلك البعيد؛ كقول الله:
{ أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت: 44]، أي: من حيث لا يكون أبداً ليس على إرادة حقيقة المكان.
وقتادة يقول: هو عند الموت وعند نزول العذاب بهم، ليس من أحد بلغ ذلك الوقت إلا وهو يؤمن ويتمنى الإيمان لكن لا ينفع؛ كقوله:
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا... } الآية [الأنعام: 158] على ما ذكر.
وقوله: { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }.
قال بعضهم: معناه - والله أعلم -: وذلك أنهم كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة، ويكفرون بالغيب، ويرجمون بالظن.
وقال بعضهم: { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ }، أي: يتكلمون بالإيمان من مكان تباعد عنهم، فلا يقبل منهم، وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه، { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }، من قبول التوبة والإيمان عند نزول العذاب بهم، أو عند معاينتهم إياه، كما فعل بأشياعهم من قبل، يقول: كما عذب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هؤلاء؛ لأنهم كانوا في شك من العذاب أو البعث والقيامة مريب.
وقال بعضهم: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من أهل أو مال أو زهرة.
وقال بعضهم في قوله: { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }: هو قولهم: هو ساحر هو شاعر كاهن.
والتناوش عند عامة أهل التأويل: التناول.
وقال بعضهم: الرجعة والردّ إلى الدنيا.
قال أبو عوسجة: التناوش: التناول من موضع بعيد لا يكون من قريب.
والقتبي يقول: { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ }، أي: تناول ما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من الموضع الذي لا يقبل فيه التوبة.
قال أبو معاذ والزجاج: الناش في كلام العرب: الطلب، تقول: ناشت إليه، أي: طلبت منه، لكن هذا ليس من باب التناوش.
وقوله: { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ }.
هو ما ذكرنا من اختلافهم: منهم من قال: بين الإيمان والتوبة، ومنهم من قال: بين شهواتهم التي كانت لهم في الدنيا، لكن كأنه على الإيمان والتوبة، فإنما حيل بينهم وبين القبول للإيمان والتوبة، وإلا نفس الفعل قد أتوا به، وإن كان على الشهوات فهو على حقيقة حيلولة الفعل، وكذلك إن كان على تخريب البيت على ما يقوله بعض أهل التأويل، والله أعلم.
وقوله: { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ }.
قال أبو عوسجة: { بِأَشْيَاعِهِم }: أمثالهم وأشباههم، فهو - والله أعلم - بأشباههم وأمثالهم في التكذيب والجحود.
وقال بعضهم: هو من شيعة الرجل.
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ }، من العذاب بأنه غير نازل بهم.
وقال [بعضهم]: إنهم كانوا في شك من البعث والإحياء بعد الممات وشكهم وريبهم؛ لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعدما صاروا رماداً، فمن هذه الحجة أنكروا، ثم لم يروا خلق الشيء للفناء خاصة، لا لعاقبة وحكمة، فارتابوا في ذلك، والله أعلم بالصواب.