التفاسير

< >
عرض

وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
٦٨
وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ
٦٩
لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ
٧٠
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ
٧١
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ
٧٢
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ
٧٤
لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ
٧٥
فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٦
-يس

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ }.
أي: من نعمره حتى يدركه الهرم والضعف، يقول: نرده في الخلق الأول لا يعقل فيه كعقله الأول؛ كقوله:
{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } [النحل: 70].
{ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ }.
أي: من فعل هذا، أو قدر على هذا، لا يعجزه شيء ويتأدى به شكره.
قال القتبي: المطموس: هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ } أي: فتجوزوا.
[و]قال أبو عوسجة: { لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } أي: أعميناهم، والمسخ: هو تغيير الصور والأبدان.
وقوله: { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي ٱلْخَلْقِ }.
أي: نصيره ضعيفاً بعد أن كان قويّاً.
وقوله: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }.
نزل هذا - والله أعلم - عند قولهم: إنه شاعر، وإنه كذاب؛ فأخبر أنه لم يعلمه الشعر، وما ينبغي له الشعر، تكذيباً لهم، وردّاً عليهم: أنه شاعر، وأن هذا القرآن شعر، جعل الله عجز رسوله عن القيام بإنشاد الشعر بعض آياته من آيات رسالته، كما جعل عجزه عن تلاوة الكتاب من قبل وكتابته وخطه بيمينه آية من آيات رسالته؛ ليعلم أولئك الذين قذفوه بالشعر والافتراء من نفسه والكذب على الله وبالسحر أنه إنما أخبر عن وحي عن الله، لا ما يقولون هم، وهم على يقين، وعلم: أنه ليس شاعراً ولا ساحراً ولا كذاباً؛ لما لم يروه اختلف إلى أحد منهم في تعلم ذلك، ولا كان عنده من كتبهم منها أخذ ذلك [ولا أخذ عليه] كذب قط، لكنهم نسبوه إلى ما نسبوه من الشعر والسحر والكذب؛ تعنتاً منهم وعناداً، يلبسون أمره بذلك على أتباعهم وسفلتهم؛ لئلا تذهب رياستهم ومنفعتهم.
وفي قوله: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } دلالة نقض قول المعتزلة؛ حيث أخبر أنه لم يعلمه الشعر، وقد أعطى له جميع أسباب الشعر، وقال في القرآن:
{ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن: 2] و { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [الرحمن: 4] أنه كان من الله لطف سوى السبب فيما أخبر أنه قد علمه؛ دل أن التعليم له فيما كان منه تعليم له بلطف منه سوى السبب لا بنفس السبب؛ إذ نفس السبب قد كان له في الأمرين جميعاً، والله أعلم.
وقوله: { وَمَا يَنبَغِي لَهُ }.
أن يشتغل بشيء مما يتلهى به، والشعر في الأصل؛ إنما جعل للتلهي به والتلذذ؛ لذلك حيل بينه وبين طبعه إنشاد الشعر؛ ليكون أبداً مشتغلا بما هو حكمة وعلم، وفيما هو أمر الله، لا بما فيه التلهي واللهو، والله أعلم.
وقوله: { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }.
{ إِنْ هُوَ } أي: ما هذا القرآن إلا ذكر؛ لما نسوه من أمر الله ووعده ووعيده ومما لهم، ومما عليهم، يذكرهم ما نسوه وتركوه و{ مُّبِينٌ }: يبين لهم ما لهم وما عليهم، أو يبين لهم ما يؤتى وما يتقى، أو يبين لهم أنه من الله جاء ومن عنده نزل لا من عند المخلوقين.
أو { ذِكْرٌ } لأهل الكتاب، يذكرهم بما نسوه مما كان في كتبهم من نعته وصفته وما عليهم القيام به وما ليس، و{ مُّبِينٌ } لمشركي العرب أنه رسول وأن هذا القرآن من عنده جاء به، وكل كتب الله ذكر ومبين ورحمة ونور وشفاء على ما أخبر، والله أعلم.
وقوله: { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ }.
قال بعضهم: من كان عاقلا، يقول: لينذر القرآن من له عقل حيّ فيؤمن، { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ } أي: السخطة على الكافرين في علم الله أنهم لا يؤمنون.
وقال بعضهم: { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً }، أي: مؤمناً؛ لأن الله - تبارك وتعالى - سمى المؤمن: حيا في غير آية، والكافر ميتاً.
ويحتمل قوله: { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي: لتقع النذارة وتنفع من كان حيّا، أي: مؤمناً على ما ذكرنا، وإن كان ينذر الفريقين جميعاً؛ كقوله:
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [يس: 11] هو ينذر من اتبع الذكر، ومن لم يتبع الذكر، لكن النذارة إنما تقع وتنفع لمن اتبع الذكر وخشي الرحمن خاصة؛ وكقوله: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55]، هو يذكر لهم جميعاً لكن المنفعة للمؤمنين فعلى ذلك الأول.
ويحتمل قوله: { مَن كَانَ } أي: من يطلب بحياته الفانية الحياة الدائمة، { وَيَحِقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } القول الذي قال:
{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 19].
وقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم }.
قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع: أن قوله: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } و
{ أَلَمْ تَرَ } [إبراهيم: 19]، ونحوه أنه في الظاهر حرف استفهام، لكنه من الله على الإيجاب والإلزام؛ ثم هو يخرج على وجهين:
أحدهما: على الخبر أن قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام وما ذكر.
والثاني: على الأمر على الرؤية والنظر فيما ذكر، أي: فليروا.
فإن كان على الخبر أنهم قد رأوا ما خلق لهم من الأنعام، فهلا تفكروا واعتبروا فيما خلق لهم من الأنعام وغيرها: أنه لم يخلق لهم ذلك عبثاً باطلا ولكن لحكمة، ولو لم يكن بعث على ما يقولون هم كان خلق ذلك عبثاً باطلا؟!
أو أن يقول: إن من قدر على تصوير ما ذكر من الأنعام وغيره في الأرحام وتركيب ما ركب فيها من الأعضاء والجوارح في الظلمات، لا يحتمل أن يخفى عليه شيء أو يعجزه، أو يفعل ذلك على التدبير الذي فعل بلا حكمة.
أو يذكر أنه خلق لهم من الأنعام وذللها لهم وجعل لهم فيها من المنافع ما ذكرنا بلا شكر يلزمهم، يتأدى على ذلك شكر ما أنعم عليهم على جهة ما لو كان على الأمر بالرؤية فيما خلق والنظر، والله أعلم.
وقوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً }.
يحتمل ما عملت أيدي الخلق من الزراعة والغرس وغير ذلك مما يعمله الخلق، نسب ذلك إلى نفسه.
ويحتمل { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ }، أي: قوتنا؛ كقوله:
{ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَٰهَا بِأَييْدٍ } [الذاريات: 47]، وقوله: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص: 75] أي: بقوة ونحوه، والله أعلم.
وقوله: { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ }.
قال بعضهم: قادرون على الانتفاع بها والاستعمال لها، يقول الرجل فيما له فيه حقيقة الملك: أنا غير مالك عليه إذا كان غير قادر على الانتفاع به، ولا مالك على استعماله.
وقيل: { مَالِكُونَ }، أي: ضابطون قادرون على إمساكها، يقال: فلان غير ضابط على إبله ودابته وهما واحد، والله أعلم.
وقوله: { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ }.
يخبر عن أنواع ما جعل لهم من الأنعام وأنعم عليهم؛ ليتأدى بذلك شكره، والله أعلم.
وقوله: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ }.
يخبر عن سفههم وقلة بصرهم وفهمهم؛ لاتخاذهم الأصنام آلهة وعبادتهم إياها؛ رجاء النصر لهم، وتركهم عبادة الله على وجود المعونة والنصر منه، وجعله كل شيء لهم، ثم يكون رجاؤهم بذلك ما قالوا:
{ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18] و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر: 3]، وذلك في الآخرة.
ويحتمل رجاء النصر لهم بعبادتهم الأصنام في الدنيا في دفع ما ينزل بهم من البلايا والشدائد؛ كقوله:
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 67].
ثم أخبر أن الأصنام التي يعبدونها وما رجوا منها لا يستطيعون نصرهم وما رجوا من شفاعتهم والنصر لهم، وأخبر أن ما عبدوا دونه يصير أعداء لهم.
قال: { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ }.
في الآخرة؛ كقوله:
{ وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [مريم: 81]؛ هذا على تأويل بعضهم من أهل التأويل يجعل الأصنام جنداً عليهم وأعداء لهم على ما ذكرنا.
ويحتمل قوله: { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ }، أي: المشركون جند للآلهة التي يعبدونها، أي: هم يقيضون لها ويقومون في دفع من همّ بها فساداً وإهلاكاً - أعني: أصنامهم التي كانوا يعبدونها - كقوله:
{ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤاْ آلِهَتَكُمْ } [الأنبياء: 68].
ثم اختلف فيه: قال بعضهم: ذلك في الآخرة.
وقال بعضهم: ذلك في الدنيا، والله أعلم.
وقوله: { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
كان من أولئك الكفرة لرسول الله أقوال مختلفة:
مرة كان منهم ما ذكر:
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ... } الآية [الأنفال: 30].
ومرة قالوا: إنه ساحر، وإنه كذاب، وإنه شاعر.
ومرة قالوا:
{ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32].
ومرة قالوا:
{ لَوْلاۤ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [الفرقان: 7].
ومرة طعنوا فيه وفيما أقام من الحجج، ولا ندري أي قول كان منهم له فيحزن عليه حتى قال له: { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }، أي: لا تحزن على قولهم؛ فإنا نعلم ما يسرون وما يعلنون؛ فنحفظ عليهم ذلك ونكافئهم على ذلك.
أو نعلم ما يسرون وما يعلنون فننصرك عليهم ونعينك.
أو أن يكون حزنه عليهم؛ إشفاقاً عليهم؛ لما كان يعلم نزول العذاب بهم والهلاك لعنادهم ومكابرتهم، والله أعلم.