التفاسير

< >
عرض

إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ
٦
وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ
٧
لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ
٨
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ
٩
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ
١٠
-الصافات

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ }
ليس أن هذه السماء التي نراها ونعاينها هي سماء الدنيا وغيرها سماء الآخرة، ولكن سماها سماء الدنيا لدنوّها من أهل الأرض وقربها منهم، وأهل الأرض هم الجن والإنس، ولهما جرى الخطاب في ذلك وفي غيره؛ وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنها إنما سميت: سماء الدنيا؛ لدنوها من أهلها، ولقربها منهم، والله أعلم.
وفي قوله - عز وجل -: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ } أخبر أنه - عز وجل - زينها بزينة الكواكب، وزينة الكواكب نفسها أضافها إلى نفسها وهي الزينة لها لا غير، فهو - والله أعلم - كأنه قال - عز وجل -: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ } وهي الكواكب، أو قال: { إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ } فسئل ما هي؟ فقال الكواكب.
وقوله - عز وجل -: { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ }.
قال - عز وجل -:
{ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر: 17]، وحفظه إياها ما ذكر في قوله - عز وجل: { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً }، قال ابن عباس وغيره: قوله: { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ } كانوا يَسَّمَّعُون ولا يَسْمَعُون.
وقال بعضهم: كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون بينهم من أمر الله وهم الملأ الأعلى.
ومن يقول: إنهم كانوا لا يسمعون يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حيث قالوا:
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [الجن: 8-9] أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر؛ دل أنهم كانوا يستمعون.
فإن قيل: كيف يوفق بين هذه الآية وبين قوله - عز وجل -: { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً... * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } استثنى الخطفة، وقال هاهنا:
{ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ... } [الجن: 9] كذا ثم الخطفة إلا أن يكون على التمثيل، أي: موضع يخطف، أو على حقيقة الخطفة وهي الاستلاب والأخذ على السرعة، والله أعلم.
لكن يشبه أن يكون الآية التي [قال] - عز وجل -:
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [الجن: 8-9] في المؤمنين منهم؛ ألا ترى أنهم قالوا: { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ } [الجن: 13]، وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } من الشياطين الذين يستمعون، والله أعلم.
ثم [في] قوله - عز وجل -:
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ } [الجن: 8] وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ... } الآية [الجن: 9] دلالة إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا ويستمعون من أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون فيما بينهم من أمر الله في الأرض، ثم يخبرون الكهنة بذلك، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون غداً كذا وفي يوم كذا وكذا وأنه انقطع ذلك بالوحي ويمنعون، فقالت الجن ذلك وأخبرت عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون، فصدقوه على ما أخبر من صنيعهم.
فإن قيل: كيف صار ذلك آية له، وإنما أخبر عن قول الجن هم، وبه ظهر ذلك ومنه عرف؟!
قيل: هكذا لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي، والله أعلم.
فإن قيل: فإذا ولوا الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا عما ولوا من حفظها وحرسها وامتحنوا حتى أمكن أولئك من الاستماع والاختطاف وما ذكر؟
قيل: جائز أن يشتغلوا هم بأعمال ويمتحنون بأمور أخر سوى ذلك، فيمكن ذلك لهم ما ذكر، والله أعلم.
فإن قيل: كيف كانت صنعة الشياطين من الاستماع منهم والخطف، وقد رأت وعاينت ما أصاب من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق؟
قيل: إن الشياطين عادتهم طلب الغفلة في كل وقت، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك، والله أعلم.
ثم جائز أن يستدل بقوله - عز وجل -:
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ... } الآية [الجن: 9]، يقول علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم فلاناً، فناداه من حيث لا يستمع: لا يحنث، وإذا ناداه من حيث يسمع حنث وإن لم يسمع؛ لما ذكر { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } [الجن: 9]، ومعلوم أنهم كانوا يقصدون من الأرض إلى الملأ الأعلى، لكن لا يسمعون، ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع؛ دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَىٰ ٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ }.
الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة، ويحتمل الجماعة؛ لأن الملأ هو اسم للشيئين: للجماعة منهم، واسم لأهل الشرف والمنزلة.
ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة؟ وما سبب ذلك؟ أن تكون تلك الأخبار وما يريد الله - عز جل - إحداثه في الأرض مكتوباً في كتاب ينظرون فيه فيعلمونه، أو ليتحدث الملائكة فيما بينهم بذلك فيستمع هؤلاء منهم ذلك، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم؟ وما يشبه ذلك، والله أعلم.
وفيه أن الجن تفهم كلام الملائكة وإن اختلفت جواهرهم، والله أعلم.