التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٦٥
رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ
٦٦
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ
٦٧
أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
٦٨
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
٦٩
إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٧٠
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ
٧١
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ
٧٢
فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
٧٣
إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
٧٤
قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ
٧٥
قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
٧٦
قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
٧٧
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٧٨
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
٧٩
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ
٨٠
إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ
٨١
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
٨٢
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ
٨٣
قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ
٨٤
لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
٨٥

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ }.
ليس عليَّ مما حملتم شيء، إنما ذلك عليكم إنما عليَّ الإنذار لكم فقط.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ }.
يقول - والله أعلم -: ما من إله عندي دونه بإله، إنما الإله هو الواحد القهار الذي تفرد وتوحد بربوبيته وألوهيته، قهر الخلائق كلهم بقدرته.
وقوله - عز وجل -: { رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }.
يخبر عن غنائه وسلطانه يقول - والله أعلم -: تعلمون أنه رب السماوات والأرض ومنشئهما ومنشئ ما بينهما، فلا يحتمل أن ما يأمركم به وينهاكم عنه، إنما يأمركم لحاجة نفسه أو لمنفعة له، ولكن إنما يأمر وينهى لمنفعة أنفسكم ولحاجتكم.
أو يقول: تعلمون أنه هو ربكم ورب ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما، فكيف تعبدون من تعلمون أنه ليس بربكم ولا إله، وإنما الإله ما ذكر فتتركون عبادته وطاعته؟!
وقوله - عز وجل -: { ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفَّارُ }.
أي: لا يلحقه الذل بذل أوليائه وخدمه؛ لأنه عزيز بذاته لا بأحد ليس كملوك الأرض يذلون إذا ذل أولياؤهم وأتباعهم؛ لأن عزهم بأوليائهم وأتباعهم فإذا ذلوا ذل من كان عزه بهم، فأما الله - سبحانه وتعالى - فعزيز بذاته لا يلحقه الذل بذل أوليائه ولا هلاكهم.
وقوله - عز وجل -: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ }، له تأويلان:
أحدهما: أن هذا القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ عظيم أنتم عن التفكر فيه والنظر معرضون؛ لأن فيه ذكر ما نزل بالمكذبين بالتكذيب والعناد، وفيه ذكر من نجا منهم بم نجا؟ وفيه ذكر ما يؤتى وما يتقى، وفيه ذكر البعث وذكر الجنة والنار ونحوه، وذكر ما لهم وما عليهم، فهم عن التفكر فيه والنظر معرضون ما لو تفكروا فيه وتأملوا، لأدركوا كله ووصلوا إلى معرفة كل ما فيه مما ذكرنا، والله أعلم.
والثاني: قوله - عز وجل -: { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي: البعث والحشر هو نبأ عظيم أنتم عن السعي والعمل لذلك معرضون تاركون.
فمن جعل تأويله على البعث والحشر يجعل الإعراض عن السعي له والعمل لذلك اليوم، ومن حمل تأويله على القرآن يجعل الإعراض عن التفكر فيه والنظر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ... } الآية.
اختلف في الملأ الأعلى: قال عامة أهل التأويل: الملأ الأعلى هم الملائكة الذين تكلموا في آدم - عليه السلام - حين قال لهم الرب - عز وجل -:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30]، فقالوا عند ذلك: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ... } الآية [البقرة: 30].
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ليس على حقيقة الخصومة، ولكن على التكلم في ذلك؛ كقوله - عز وجل -:
{ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا } [الطور: 23] كأنها ليس على التنازع المعروف عند الناس والخصومة، ولكن على اختلاف الأيدي فعلى ذلك ما ذكر من اختصامهم، والله أعلم.
ومعناه: ما كان [لي] من علم من اختصام الملأ الأعلى وما كان منهم من التكلم إلا أن أوحي إليَّ فعلمت وإنما أنا نذير مبين.
وقال بعضهم: { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } وما كان اختصامهم في الكفارات وفي الدرجات وفي المنجيات والموثقات حتى علمني الله ذلك بالوحي إليّ وأعلمني ذلك، ويذكرون أن الكفارات هو إسباغ الوضوء في المكروهات وبذل الطعام عند الضيق والشدائد ونحوها مما يطول ذكره، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله - عز وجل -: { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِٱلْمَلإِ ٱلأَعْلَىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي: بالجمع الأعلى وهو جمع يوم القيامة، سماه: الجمع الأعلى؛ لأنه جمع الأولين والآخرين من الفرق جميعاً، أي: ما كان لي من علم بذلك الجمع حتى علمت بالوحي.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ يَخْتَصِمُونَ }.
في ذلك اليوم تقع الخصومات؛ كقوله - عز وجل -:
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر: 31] وهو على حقيقة الخصومة.
وجائز أن يكون الملأ الأعلى هم الأشراف من أولئك الكفرة والقادة، منهم الذين أهلكوا بالتكذيب ومن نجا منهم بالتصديق؛ يقول: ما كان لي من علم بهم وما نزل بهم أوحي إليّ فعلمت بالوحي، كأنهم سألوه عن ذلك فأخبر؛ أي: كنت كواحد منكم في ذلك حتى علمت ذلك بالوحي، ألا إنما أنا نذير مبين أمرني ربي وأوحى إليّ أن أنذركم بذلك حين أعلم بالوحي، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ }.
ظاهر هذا أن يكون لا على القول منه لهم، ولكن على الخبر أنه كان ما ذكر، والله أعلم.
ثم ذكر الذي خلق منه آدم على أوصاف مختلفة: مرة ذكر أنه خلق من طين، ومرة من تراب، ومرة من حمأ مسنون، ومرة كالصلصال، ومرة كالفخار، ومرة لازب وغيره على اختلاف ما ذكر؛ فجائز أن يكون كل وصف من ذلك قد كان وصف عن حال، كان تراباً، ثم صار طيناً ثم ما ذكر [و]وصف، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي }.
إضافة الروح إلى نفسه كإضافة خلق من خلائقه إليه؛ إذ الروح خلق من خلائقه كسائر الخلائق.
وقوله - عز وجل -: { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }.
لولا صرف أهل التأويل سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود وإلا كنا نصرفه لآخر: إلى الخضوع له والاستسلام، كما أحوج الملائكة إلى معرفة هذه الأسماء إلى آدم وبه عرفوها حيث قال - عز وجل -:
{ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ } [البقرة: 33]، لكن صرف أهل التأويل سجود الملائكة إلى حقيقة السجود له جائز؛ لأنهم ممتحنون بالأمر والنهي وقد بينا ذلك فيما تقدم.
ثم استثنى إبليس من الملائكة وأخبر أنه استكبر وأبي أن يسجد له حيث قال - عز وجل -: { فَسَجَدَ ٱلْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }.
على قول من يقول: إن إبليس كان من الملائكة، فلما أبي السجود، خذله ووكله إلى نفسه صار كافراً؛ ليعلم أن كل أحد وإن عظم قدره وجلت منزلته يحتمل خلاف ما هو [عليه] وضده، وأنه متى امتحنه بأمر فترك أمره؛ تكبراً أو استخفافاً - خذله ووكله إلى أمره ونفسه فصار كافراً مخذولاً حقيراً، ليكونوا أبداً على حذر وفزع إلى الله - عز وجل - على ما أخبر من عظم قدر الملائكة عند الله وجليل منزلتهم عنده إذا خذلهم ووكلهم إلى أنفسهم صاروا كما صار إبليس، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }.
أي: كان في علم الله أنه يكفر.
أو كان بمعنى صار من الكافرين إذ أبي السجود واستكبر؛ كقوله - عز وجل - لآدم:
{ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [البقرة: 35] أي: تصيرا من الظالمين، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }.
قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن تخصيص إضافة الشيء الواحد إلى الله - عز وجل - يخرج مخرج تعظيم ذلك الواحد وذلك الفرد؛ كقوله: بيت الله ومساجد الله ورسول الله وولي الله وأشباه ذلك، وخص هذه الأشياء بالإضافة إليه وإن كانت البقاع كلها والخلق كله له على التعظيم لذلك؛ فعلى ذلك يخرج إضافة خلق آدم إلى نفسه مخرج تعظيم آدم حيث قال: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وإن كان جميع الخلائق هو خلقهم، ويخرج إضافة كلية الأشياء إلى الله وكلية الخلائق إليه مخرج تعظيم الربّ والمدح له؛ نحو قوله - عز وجل -:
{ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 102] ورزاق، يخلق منشأ العالم ومبدأه، وهو على كل شيء قدير، مالك الملك، وغير ذلك على ما ذكرنا فيما تقدم، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { بِيَدَيَّ }.
قد تكلف أهل الكلام والتأويل في تأويل إضافة اليد إلى الله - عز وجل -: منهم من قال: القوة، ومنهم من قال: كذا، لكن التكلف في ذلك فضل مع ما قد يضاف اليد إلى من لا يد له ولا جارحة ولا عضو، نحو [ما] قال - عز وجل -:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت: 42] لم يفهم أحد بذكر اليد له ولا الخلف ما يفهم من الخلق ولا ذهابهم، وكذلك ما ذكر من مجيء البرهان حيث قال - عز وجل -: { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [يونس: 57] و { قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [النساء: 174] وأمثال ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه، لم يفهم أحد من الخلائق من مجيء هذه الأشياء التي ذكرنا مجيء الخلق ولا فهم من ذكر اليد - لما ذكرنا من الأشياء - جارحة ولا عضو، فكيف يفهم من ذكر اليد ما فهم من الخلق إلا لفساد اعتقادهم لربهم والجهل بتعاليه عن معنى الغير، وإلا لم يخطر بباله بذكر ذلك لله أو إضافته إليه ما يخطر بباله من الخلق ومعنى الخلق.
أو أن يكون ذكر ذلك لنفسه وإضافته إليه من اليد وما ذكر؛ لِمَا باليد يكون في الشاهد لو احتمل كون ذلك من الخلق، نحو ما قال:
{ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران: 182] وما كسبت يداك، ونحو ذلك مما يعلم في الحقيقة أن ذلك لم يكن يكسب به حقيقة ولا عمله من نحو الكفر وغير ذلك من الأشياء، لكنه ذكر لما باليد يكتسب في الشاهد وبها يعمل أكثر الأعمال والأفعال.
أو أضاف ذلك إليها لما ذكرنا وإن لم يكن منها عمل حقيقة؛ فعلى ذلك إضافة اليد إلى الله فيما أضاف على ما كان ذلك من الخلق إنما كان باليد؛ على ذلك يخرج ما ذكر من استوائه على العرش بعد أن ذكرنا فيه ما يليق به ونفينا عنه ما لا يليق، وأصل ذلك أنا عرفنا الله - عز وجل - متعاليا عن جميع معاني الغير [و] عن كل صفات يوصف بها الغير، على ما ذكر في كتابه:
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] فإذا كان كذلك فلا حاجة لنا إلى تأويل اليد وما ذكروا أنه ما أراد بها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ }.
معناه - والله أعلم -: أستكبرت للحال عندما أبيت السجود له، أم كنت في اعتقادك من العالين أي المستكبرين؟
ويحتمل قوله - عز وجل -: { أَمْ كُنتَ }: أم صرت من العالين، أي: استكبرت وصرت من العالين على ما في قوله - عز وجل -: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }، أي: صار من الكافرين.
ثم حرف الشك والاستفهام من الله قد ذكرنا أنه على الإيجاب والقطع كأنه قال: بلى كنت في [علم] الله أنك تكفر.
أو يقول: صرت من العالين، أي: ممن يطلب العلو؛ كقوله - تعالى -:
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [القصص: 4].
وقوله - عز وجل -: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.
ظن إبليس - عليه لعنة الله - أن النار لما كان من طبعها الارتفاع والعلو ومن طبع الطين التسفل والانحدار أن الذي طبعه الارتفاع والعلو خير من الذي طبعه التسفل والانحدار؛ لذلك قال - والله أعلم -: { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.
أو لما رأى أن إصلاح الأشياء كلها ونضجها بالنار فقال [هذا] عند ذلك.
لكن لو نظر الملعون وحقق النظر، لعلم أن الطين خير من النار؛ لأنه من الأرض، والأرض كالأصل والأم لغيرها؛ لأن الأشياء يكون صلاحها ونضجها بالنار [و] أول بدئها من الأرض، كالابن من الأم الوالدة على ما ذكرنا، والله الموفق.
ثم كفره بإبائه السجود له لما لم ير أمر الله له بسجود من هو خير وأعلى لمن دونه حكمة وحقّاً، فكفر لما رأى أنه وضع الأمر في غير موضع الأمر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَٱخْرُجْ مِنْهَا }.
قال بعضهم: أي: اخرج من الجنة.
وقال بعضهم: اخرج من السماء إلى الأرض.
وقال بعضهم: أي: اخرج من الأرض إلى جزيرة البحر، والله أعلم بذلك، وليس لنا أن نتكلف القطع على القول فيه: أن أمره بالخروج من كذا، وقد عرف اللعين أنه بماذا أمره بالخروج منها.
ثم ذكر مرة { فَٱخْرُجْ مِنْهَا }، ومرة قال:
{ فَٱهْبِطْ مِنْهَا } [الأعراف: 13] ونحو ذلك من الألفاظ المختلفة؛ وكذلك ما ذكر مرة قال: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }، وقال في موضع آخر: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12]، وقال في موضع: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } و { تَكُونَ مَعَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الحجر:32] ونحو ذلك على الألفاظ المختلفة، فذلك كله يدل على أن ليس على الناس حفظ الألفاظ والحروف، وكذلك ما ذكر في القصص على اختلاف الألفاظ مكررة معادة.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ }.
أي: لعين، كأنه قال: فإنّك لعين على ألسن الناس، ليس يذكره أحد من أعدائه وأتباعه وأوليائه إلا وقد لعنه.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.
كانت اللعنة عليه إلى يوم الدين هي خذلانه وطرده عن رحمته ودينه؛ لما علم أنه لا يعود إلى اختيار توحيده وطاعته أبداً، وإلا كان عليه لعنته في الدنيا والآخرة: فأما في الدنيا ما ذكرنا من خذلانه وتركه في العمر، وأما في الآخرة مطرود عن جنته، والله أعلم.
ثم سأل ربه أن ينظره إلى يوم يبعثون فأجاب حيث قال - عز وجل -: { فَإِنَّكَ مِنَ ٱلْمُنظَرِينَ } وإنما أنظره - والله أعلم - لأنه يختار الكفر والخلاف له أبداً.
ثم قوله - عز وجل -: { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ }.
هو يوم اختلف فيه:
[قال بعضهم:] { ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ }: هو يوم البعث، إلى ذلك أنظره على ما سبق منه السؤال على النظرة إلى يوم البعث حيث قال: { إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.
وقال بعضهم: { ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ }: هو النفخة الأولى.
وقال بعضهم: لم يبين له ذلك الوقت؛ ولذلك ذكر منه الخوف، وهو ما قال - عز وجل -:
{ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } [الحشر: 16]، ولو كان بين له الوقت المعلوم لكان لا يخاف دون ذلك الوقت، ولكنه يأمن فدل خوفه أنه لم يبين له ذلك وهو معلوم عند الله، والله أعلم.
وقوله: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }.
وقال - عز وجل -:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } [الحجر: 42] كأنه يقول - والله أعلم -: إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان أن تغويهم إلا من كان في علمه أنه يختار الغواية ويؤثر اتباعه؛ فيكون له عليهم سلطان الإغواء، فأما من كان في علم الله أنه يختار الإيمان والتوحيد، فلا سبيل لك عليهم، والله أعلم.
ثم قال بعضهم: { ٱلْمُخْلَصِينَ } للتوحيد، فإن كان ذلك فيكون قوله تعالى: { لأُغْوِيَنَّهُمْ } يكون كفرا.
وقال بعضهم: { ٱلْمُخْلَصِينَ } من الهلاك، فإن كان ذلك فيكون قوله: { لأُغْوِيَنَّهُمْ }، أي: لأهلكنهم.
وقال بعضهم: { ٱلْمُخْلَصِينَ } من كل ذنب وكل معصية، لكن الوجهين الأولين أشبه وأقرب، والله [أعلم].
وقوله - عز وجل -: { قَالَ فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ }.
قرئ بنصبهما جميعاً: { فالحقَّ والحق أقول }، وقد قرئ أيضاً برفع الأول ونصب الثاني: { فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ }.
فمن قرأه بالرفع فيكون معناه - والله أعلم - { فَٱلْحَقُّ وَٱلْحَقَّ أَقُولُ } أي: مني يكون الحق على هذا.
ومن قرأه على النصب فهو على التأكيد؛ تأكيداً على ما ذكر على أثره كأنه يقول: أقول الحق الحق، وهو يقول: { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }.
ثم جائز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة فيقال لهم: أراد الله تعالى أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره الذي أخبر أنه كان يكون، أو لم يرد أن ينجز ما وعد وألا يخرج خبره على الصدق.
فإن قالوا: لم يرد، أعظموا القول؛ لأنهم زعموا أنه أراد أن يخلف ما وعد، وأن يكذب في خبره، فذلك عظيم القول حيث وصفوا ربهم بالسفه؛ لأن من أراد أن يخلف وعده وأن يكذب في خبره، فهو سفيه على زعم من قال ذلك.
وإن قالوا: أراد أن ينجز ما وعد وأن يصدق خبره، فيقال لهم: أراد أن يتبعوا إبليس، أو أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوه؟
فإن قالوا: أراد أن يؤمنوا ولا يتبعوا إبليس، فيقال: أراد أن يجور ويظلم على زعمكم، لأنه أراد أن يملأ جهنم ولم يرد ما يستوجبون ذلك؛ فدل على أن الله تعالى علم أنه يكون منهم، والله أعلم.