التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِـيجُ فَـتَرَاهُ مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
٢١
أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٢
ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٢٣
-الزمر

تأويلات أهل السنة

قوله: { أَلَمْ تَرَ } ونحوه [يخرج] على وجهين:
أحدهما: على الخبر { أَلَمْ تَرَ } أي: قد رأيت.
والثاني على الأمر: أن ره.
ثم الخطاب، وإن كان في الظاهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لكل أحد يحتمل النظر والتأمل، ثم جهة الحكمة المودعة فيها ما ذكر من إنزال الماء من السماء، وجعله ينابيع في الأرض، والينابيع هي العيون التي تخرج من الأرض، والآبار التي جعلت فيها؛ ليعلم أنّ المياة الخارجة من الأرض والجارية فيها أصلها من السماء، منزلة منها، وهي طهور؛ على ما أخبر أنه أنزله طهوراً، وإن اختلف طبعه لاختلاف جواهر الأرض ما لم يخالطه شيء من جواهر الأرض من القذر والنجاسة وغيرها من الألوان التي تخرجه عن أن يكون طهوراً وتغيره عن جوهره الذي أنزل من السماء، ثم جعل الله - عز وجل - في سِرّية ذلك الماء معنى ولطفاً ما يوافق جميع الأشجار والنبات، وكل خارج من الأرض وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها؛ ليعلم أنّ من قدر على جعل ما جعل في الماء من اللطف، والمعنى الذي يوافق كل شيء من النبات والشجر وإن اختلفت جواهرها وألوانها وطعمها، لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولا قوة إلا بالله.
أو أن يقول: إن من تكلف زرع الزراعة في الأرض، ويتحمل المؤن العظام إلى أن بلغ المبلغ الذي ينتفع به وينال منه النفع فتركه لم ينتفع به؛ أليس يوصف بالسفه وبغير الحكمة، فكذلك الله - سبحانه - لما أنشأكم صغاراً طفلا وغذاكم بألوان الأغذية والأطعمة حتى كبرتم وبلغتم مبلغ الانتفاع بكم، ثم أتلفكم بلا عاقبة تقصد في ذلك كان غير حكيم، وقد عرفتموه حكيماً؛ فدل أن المقصود في ذلك كله حتى يكون إنشاؤه إياكم صغاراً وتربيته إياكم بألوان الأغذية التي جعل لكم حكمة - هو البعث ما لولا ذلك كان سهفاً غير حكمة؛ على ما ذكر من إخراج الزرع من الأرض بالماء الذي أخرج، ثم تركه فيها حتى صار ياسباً لا ينتفع به كان سفيهاً غير حكيم، فعلى ذلك ما كان عند أولئك الكفرة أن لا بعث كان ما ذكر، والله أعلم.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي: فيما يذكر من إنزال الماء من السماء وإدخاله في الأرض وإخراج ما ذكر منها به وما ذكر - موعظة لأولي الألباب؛ أي: لمن انتفع بلبه وعقله؛ لما ذكرنا، وما ذكر لأهل الجنة من الغرف وغير ذلك.
وقوله: { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: أدخله فيها وجعله ينابيع؛ أي: عيوناً.
وقوله: { ثُمَّ يَهِـيجُ } أي: ييبس.
وقوله: { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } متكسراً مثل الرفات والفتات، وهو قول أبي عوسجة والقتبي، ويقال: هاجت الأرض: إذا ابتدأت في اليبس، حطاما، أي: متكسرا.
وقوله - عز وجل -: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } قيل: { شَرَحَ ٱللَّهُ }: وسع الله.
وقيل: رحب الله.
وقيل: لبى الله، ونحوه؛ وكله واحد.
ثم يحتمل قوله: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } فيسلم { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }، أي: يجعل الله في صدره النور؛ أي: يجعل إذا أسلم حتى يبصر الحق وحججه وبراهينه بصورة الحق أنه حق، والباطل أنه باطل، وأنه تمويه، يبصر كل شيء بذلك النور على ما هو حقيقة أنه حق وباطل، فيأخذ الحق ويعمل به، ويترك الباطل ويجتنبه، والله أعلم.
أو أن يكون قوله: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }، يكون نوره هو إسلامه الذي هداه شرح صدره لنوره حتى أسلم، وهو ما روي في الخبر
"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أنه: هل ينشرح الصدر للإسلام؟ وكيف ينشرح؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخله النور انشرح لذلك الصدر، وانفسح له" ؛ أخبر أن النور إذا دخل الصدر انشرح لذلك الصدر، وانفسح له بذلك النور، والله أعلم.
وجائز - أيضاً - أن يكون قوله - عز وجل -: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } في الدنيا { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } في الآخرة؛ كقوله - عز وجل -:
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ... } الآية [التحريم: 8]، والذين كفروا طبع الله على قلوبهم فتظلم وتفسق لما تبقى في الظلمة أبداً، والله أعلم.
ومنهم من قال: { شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ }: الإسلام نفسه إذا أسلم { فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } كتاب الله، قال: هذا المؤمن به يأخذ، وإليه ينتهي،
"وما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل لذلك - أي: لانشراح الصدر للإسلام - علامة؟ فقال: نعم؛ التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل حلول الموت" ، فهذا في التحقيق ليس في المعاملة في العمل، ولكن في الاعتقاد؛ أي: يتجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود: يتزود من الدنيا للآخرة.
ثم قوله: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } يحتمل أن يكون على الاستفهام؛ على ما ذكر.
ويحتمل ألا يكون على الاستفهام، ولكن على الإيجاب، فإن كان على هذا فهو على إسقاط الألف: فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه... الآية؛ كقوله في آية أخرى:
{ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [الأنعام: 125] فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الآية على هذا، والله أعلم.
وإن كان على الاستفهام فلابد أن يكون له مقابل يعرف ذلك بدليل أنه جواب.
ثم قال بعضهم: جوابه في قوله: { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } كأنه يقول: ليس المنشرح صدره للإسلام كالقاسي قلبه بالكفر؛ وهو قول الكسائي.
وجائز أن يكون جوابه ومقابله ما تقدم ذكره، وهو قوله:
{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ... } الآية [الزمر: 19]؛ كأنه يقول: أفمن حق عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام؛ أي: ليس من وجب عليه العذاب كمن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه، والله أعلم.
وقوله: { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }.
يحتمل قوله - عز وجل -: { نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }: أصدقه خبراً، وأعدله حكماً، وهو ما ذكر في آية أخرى، ووصفه بالصدق والعدل؛ حيث قال - عز وجل -:
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [الأنعام: 115] أي: صدقاً فيخبره، وعدلا في حكمه، فعلى ذلك يحتمل قوله: { أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } خبراً، وأعدله حكماً، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ }، أي: أتقنه وأحكمه، وهو متقن ومحكم، وهو على ما وصفه بالصدق والعدل في آية أخرى قال:
{ لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 42] أخبر أنه لا يأتي القرآن باطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك لإتقانه وإحكامه، والله أعلم.
وهو أحسن الحديث؛ لأن من تأمله ونظر فيه وتفكرّ أنار قلبه، وأضاء صدره، وهداه سبيل الخير والحق، ودفع عنه الوساوس والشبهات وكل شر، وأفضاه إلى كل خير وبرّ فهو أحسن الحديث؛ إذ لا حديث يعمل ما يعمل هو؛ لما ذكرنا، وغير ذلك، والله أعلم.
وقوله: { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } قوله: { مُّتَشَابِهاً } أي: ليس بمختلف ولا متناقض، ليس كحديث الناس وكتبهم مما يختلف ويتناقض حديثهم وكتابهم، وخاصة فيما امتدّ من الأوقات وطال وبعدت مدته، وهو ما ذكر:
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً... } [النساء: 82] دل كونه متفقاً، متشابهاً، غير مختلف في طول نزوله، وتفرق أوقاته، وتباعد أيامه في الإنزال - أنه من عند الله نزل، ومنه جاء؛ إذ لو لم يكن من عنده لخرج مختلفاً متناقضاً على ما يخرج حديث الناس وخبرهم مختلفاً ومتناقضاً، والله أعلم.
وقوله: { مَّثَانِيَ } قال أهل التأويل: سماه: مثاني؛ لما ثنّى فيه أنباؤه وقصصه مرة بعد مرة، وأصله: أنه سماه: مثاني؛ لأنه ذكر فيه المواعظ والذكرى وكررها في غير موضع، لما لو لم يكررها غفلوا عنها، وسهوا عنها؛ لأن الحكيم إذا وعظ أحداً عظة وزجره وسها عنه [كررها عليه]، وكرر - عز وجل - عليهم المواعظ والزواجر؛ ليكونوا أبداً متعظين متذكرين لذلك - والله أعلم - لكيلا يغفلوا عنها ولا يسهوا.
وقوله: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } قال أهل التأويل: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } عند تلاوة آية الرهبة والخوف، وتلين قلوبهم عند تلاوة آية الرحمة.
وجائز أن يكون ذلك لهم بجميع القرآن بما فيه من الرحمة والرهبة جميعاً يكون فيهما الموعظة: تلين قلوبهم وتقشعر جلودهم وتخاف أنفسهم؛ لأن آية الرحمة ليست بأحق بتليين القلوب من آية الرهبة، بل آية الرهبة أحق بذلك.
وقتادة يقول: كانت جلودهم تقشعر، وعيونهم تبكي، وقلوبهم تطمئن إليه، ولا تذهب عقولهم، ولا يغشى عليهم، كما رأينا أهل البدع يفعلونه، وإنما ذلك من الشيطان.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ } قد بين سبيل الهدى والحق، وحججه وبراهينه، وبين سبيل الضلالة والباطل، فمن سلك سبيل الهدى فبتوفيقه سلك، وبمعونته اهتدى، ومن سلك طريق الكفر والباطل فبخذلانه ضل وزاغ.
وقوله: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أخبر أنّ من أضله الله فلا هادي له، وعلى ما قال في المعيشة والرزق؛ قال - عز وجل -:
{ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2] وقال - عز وجل - في الضراء والخير؛ حيث قال: { وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [يونس: 107] ذكر في الضلال والهدى ما ذكر في الرزق والضر والخير، ذلك أنّ الله في فعلهم وصنعهم تدبيراً، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا تدبير لله في ذلك، وأن من اهتدى إنما يهتدي بنفسه، ومن ضل وزاع إنما ذلك بنفسه، لا تدبير لله في ذلك، فالآية تنقض قولهم ومذهبهم.
وقتادة يقول في قوله: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } وإنما يذكر الله أهل الإيمان، فكانت تقشعرّ بذلك جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم، ولا تذهب عقولهم منه، وأما أن يصرع أحدهم فلم يكن، وإنما كان هذا في أصحاب البدع، وربما هو من الشيطان، ولعمري ما كان في هذه الأمة أحد أعلم من نبيه صلى الله عليه وسلم ومن بعده أصحابه الذين انتخبهم الله - عز وجل -: لصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، ولقد سألنا من لقينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب أصحابه، فحدثوا أن هذا إنما كان في أهل البدع.