التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٧
قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
٢٨
ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٩
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ
٣٠
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ
٣١
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
٣٢
وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ
٣٣
لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٤
لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ
٣٥
-الزمر

تأويلات أهل السنة

قوله: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ }، أي: بينا للناس في هذا القرآن من كل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم؛ أخبر لهم ما لهم وما عليهم، أو لبعضهم على بعض، وأمثاله، والله أعلم.
وقوله: { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: لكي يلزمهم التذكر والاتعاظ.
والثاني: لكي يبلغهم ما يتذكرون ويتعظون.
وقوله: { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي: جعلناه قرآناً عربيّاً؛ كقوله:
{ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [يوسف: 2] لكي يفقهوه ويعرفوه؛ كقوله - تعالى -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ... } الآية [إبراهيم: 4].
وقوله: { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا يخالف الكتب السالفة؛ بل يوافقها؛ لأن كتب الله جاءت كلها على الدعاء إلى توحيد الله وربوبيته، فكذلك القرآن، فهو لا يخالف سائر الكتب؛ بل يوافقها.
والثاني: لا عوج فيه؛ لما لا يخالف بعضه بعضاً، ولا يناقض؛ بل خرج كله موافقاً بعضه بعضاً مستقيماً على تباعد نزوله في الأوقات، وبالله التوفيق.
وأصله: { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي: ليس بمائل ولا زائع عن الحق.
وقوله: { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: يتقون المهالك، أو سخط الله ونقمته.
وقوله: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي: لا يستويان.
يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجلين من البشر كله: المسلمون والكافرون، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون؛ أي: يتشاكسون في نسبه، يدعي كل نسبه.
أو يتشاكسون في الملك فيه، يقول كل: هو لي أو في الملك في قوم يدعي كل أن الملك له فيه.
أو يدعي كل أن الملك فيهم، ولا يثبت لواحد منهم النسب فيه لينتسب هو إلى واحد منهم، فيبقى متحيراً تائهاً؛ ولذلك لا يثبت لواحد منهم الملك الذي يدعي؛ ليطلب هذا منه النفقة، وما يجب على ذي الملك من حقوق الملك، فسعى ضائعاً متحيراً، وإذا كان الملك لرجل واحد، أو النسب أو الملك سالم له يصل إلى كل حق له، ويكون محفوظاً في نفسه معروفاً، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام، أو هوى النفس، يدعو كل شيطان إلى غير الذي دعا الآخر، وكذلك الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا، ومرة إلى غير ذلك، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون يدعي هذا وهذا، والذي يعبد إله الحق الذي يثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد يكون أبداً على حالة واحدة، مطيعاً لله، خالصاً له.
وقوله: { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي: هل يستوي الرجل الذي يدعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد، فيما ذكرنا؟! أي: لا يستويان.
وقال أهل التأويل: { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } من يعبد آلهة شتى مختلفة، والذي يعبد ربّاً واحداً، وهو المؤمن، وقد رأوا أنهم قد استووا [في] هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، وفيه دلالة البعث، وكذلك في قوله:
{ مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } [هود: 24] وقد استووا في هذه الدنيا دل أن هنالك داراً أخرى يفرق بينهما [فيها]؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهما، والله أعلم.
وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذكر الحمد على أثر ذلك يخرج على وجهين:
أحدهما: أن يحمد ربه على ما خصه بالتوحيد من بين الكفار { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد ربهم.
والثاني: أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالماً خالصاً؛ لم يجعل فيه شركاء متشاكسين.
قال أبو عوسجة والقتبي: { شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي: مختلفون، يتنازعون، ويتشاحُّون { وَرَجُلاً سَلَماً } أي: خالصاً.
ومن قرأ: { سَلَمَاً لِّرجُلٍ } أراد: سلم إليه، فهو سلم.
ثم قوله: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يحتمل الأنبياء منهم والخواص؛ كقوله:
{ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28].
وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: { تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بربهم ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وفي حرف حفصة: { ثم يثبت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله }.
وقال بعضهم في قوله - عز وجل -: { يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ }: يقول - والله أعلم -: ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه؛ ليسا بسواء؛ على ما ذكرنا.
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وجه ذكر هذا على أثر ما تقدم من قوله: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } وقد استووا في هذه الدنيا من أخلص نفسه ودينه لله وللرسول، ومن جعل فيه شركاء ولم يسلم نفسه له، وهو الكافر، ثم تموت أنت ويموتون هم، فلو لم تكن دارٌ أخرى يميز فيها ويفرق بين الذي جعل نفسه سلماً لله، خالصاً له، وبين من لم يفعل ذلك - لكان في ذلك استواء بين من ذكر، وفي الحكمة أن لا استواء بينهما، وقد يموت السالم نفسه لله، ويموت الآخر دل أنّ في ذلك بعثاً، يثاب هذا، ويعاقب الآخر، والله [أعلم].
أو أن يذكر هذا؛ لما كانوا يتشاءمون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد، حتى قال - عز وجل -:
{ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء: 34] أي: لا يخلدون، فعلى ذلك يقول - عز وجل -: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } أيضاً، أي: لا يبقون بعد موتك أبداً، ولكنهم يموتون، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون، فيجئ ألا يصيبهم بعد موتك؛ نحو هذا يحتمل، والله أعلم.
أو أن يقول: إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كنا لا نعلم ما يفسر هذه الآية، وكنا نقول: من يخاصم؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله، حتى كفح بعضنا وجوه بعض بالسيوف، فعرفت أنها نزلت فينا.
وذكر عن الزبير: لما نزلت هذه الآية، فقال: يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا، فقال: (نعم)، فقال: إن الأمر إذن لشديد.
وروي عن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا: كيف نختصم ونحن إخوان؛! فلما قتل عثمان ظلماً وعدوانا، علموا أنها لهم وفيهم، والله أعلم.
ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين:
أحدهما: في المظالم [أو] في الحقوق التي كانت لبعض على بعض، أو في الدين، أو في أمر الدنيا.
أو أن يكون قوله - عز وجل -: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } لما بلغت المحاجة غايتها في الدين والدنيا، ولم تنجع فيهم ولا قبلوها أخبر أنهم يختصمون في ذلك يوم القيامة في الوقت الذي يعاينون العذاب، ويظهر لهم الحق، فينقادون لها في ذلك الوقت، فلا ينفعهم ذلك، والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود: { إنك مائت وإنهم مائتون } والعرب تقول: مات يمات فهو مائت.
وقوله - عز وجل -: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } يقول: لا ظلم أعظم ولا أفحش مما يكذب على من يتقلب في إحسانه، ويتصرف في نعمائه، وأنتم تتقلبون في نعم الله وأنواع إحسانه، فلا ظلم أعظم ولا أفحش من الكذب عليه.
{ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } ولا ظلم أعظم وأفحش من تكذيب خبره ورده؛ إذ لا خبر أصدق من خبره، ولا حديث أحق من حديثه.
وقوله - عز وجل -: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } كأنه يقول: أليس جهنم كافٍ للكافرين مثوى؛ كقوله - عز وجل -:
{ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } [المجادلة: 8] أي: حسبهم جهنم عقوبة لهم بكفرهم وتكذيبهم، والله أعلم.
وقوله: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } اختلف أهل التأويل فيه:
قال بعضهم: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ }: جبريل، عليه السلام، { وَصَدَّقَ بِهِ }: محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ }: محمد { وَصَدَّقَ } أبو بكر.
وقال بعضهم: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } محمد { وَصَدَّقَ } أصحابه جميعاً.
قلنا: أهل التأويل على اختلافهم اتفقوا أن الذي جاء به جبريل أو محمد هو التوحيد، فإن كان التأويل ما ذكر أهل التأويل، فعلى ذلك قوله: { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي: الموحدين، ففيه نقض قول الخوارج والمعتزلة أنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن، وأنه يخلد في النار؛ لأنه قال: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } وكل مرتكب الكبيرة مصدق بالذي جاء به جبريل ومحمد، ثم أخبر أنهم هم المتقون؛ أي: اتقوا الشرك، وقال لأولئك - أيضاً -: إنه يكفر عنهم ما ارتكبوا من المساوي، وهو قوله: { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } دل أن لهم مساوي، ثم إن شاء عذب على تلك المساوئ وقتا ثم أعطاهم ما وعد، وإن شاء عفا عنهم وتجاوز وأعطاهم ما ذكر، فكيفما كان، فلهم ما ذكر؛ إذ هم على تصديق بما جاء [به] محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } يحتمل وجهين:
أحدهما: صدق بقلبه؛ أي: جاء بالقول وتصديق القلب.
والثاني: صدق به في المعاملة في اختيار كل ما يصلح ويوافق الذي جاء به، وعلى ذلك ذكر عن الحسن قال: يا بن آدم، قلت: لا إله إلا الله، فصدقها.
فإن كان التأويل هذا فهو أشد، لكنه وإن لم يعمل الذي يوافق الذي جاء به وهو التوحيد لم يجتنب ما ذكرنا، فإن له ما ذكر إما بعد التوحيد، وإما بعد العفو، والله أعلم.
وقوله: { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } دل هذا أن ذلك الوعد للجماعة، وليس لواحد ولا اثنين، وهو لجميع المؤمنين.
وقوله: { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } ذكر نوعين من العمل السيئ والحسن، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم بأحسن [الذي كانوا يعملون]، فيحتمل: الأحسن: الحسنات نفسها يجزيها، ويكفر السيئات.
ويحتمل أنه يكفر [أسوأ] السيئات وأعظمها، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها، أحسن الحسنات وأسوأ السيئات، وعلى الأول من غير نوعها أي يكفر السيئات، ويجزي بالحسنات، والله أعلم.