التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
١٢٣
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
١٢٤
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً
١٢٥
وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً
١٢٦
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }.
أخبر - عز وجل - أن الأمر ليس بالأماني؛ ولكن إلى الله - عز وجل - فهو - والله أعلم - يحتمل أن يكون في المنزلة والقدر عند الله؛ لأنهم قالوا:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [آل عمران: 18]، وقالوا: { قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [آل عمران: 24]، وغير ذلك من الأماني.
وأهل التأويل يذهبون إلى غير هذا، وقالوا: إن كل فريق منهم كانوا يقولون: إن ديننا خير من دينكم، ونحن أفضل من هؤلاء؛ فنزل: { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }. وذلك بعيد.
وقوله - عز وجل -: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }.
اختلف فيه؛ قال بعضهم: قوله - تعالى -: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }، يعني: ركا يجز به؛ يدل على ذلك قوله - عز وجل -: { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }، وذلك وصف الكافر ألا يكون له ولي يتولى حفظه، ولا نصير ينصره؛ ألا ترى أنه قال: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ }؛ ذكر الذين يعملون الصالحات - وهم مؤمنون - أن يدخلوا الجنة؛ فهذا - أيضاً - يدل أن قوله - عز وجل -: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } أراد به الشرك.
وقال آخرون: قوله - عز وجل -: { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ }، أي: كل سوء يدخل فيه المسلم والكافر؛ ألا ترى أنه رُوي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -
"لما نزلت هذه الآية، قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذا وكل شيء عملناه جزينا به؟! قال: غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ! أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ يُصَيبُكَ الأَذَى؟ فَهَذَا مَا تُجْزَوْنَ بِهِ، يُجْزَى بِهِ المُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا، وَالَكافِرُ فِي الآخِرَةِ" ، فإن كان التأويل هذا؛ فقوله: { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }: هو في الكافر؛ أي: لا يجد له وليّاً ولا نصيرا إذا لم يرجع عن كفره ومات عليه، وأما إذا رجع عن ذلك، وتاب، ومات على الإيمان؛ فإنه يجد له وليا ونصيرا: ينصره الله - تعالى - وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }.
في الآية دليل أن الأعمال الصالحات غير الإيمان؛ لأنه قال - تعالى -: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ ... وَهُوَ مُؤْمِنٌ }، ولو كان إيماناً؛ فيصير كأنه قال: ومن يعمل الإيمان وهو مؤمن؛ فدل - بما ذكرنا - أنها غير الإيمان، وفيه دلالة - أيضاً - أن الأعمال الصالحة إنما تنفع إذا كان ثمة إيمان؛ لأنه شرط فيه الإيمان بقوله - تعالى -: { وَهُوَ مُؤْمِنٌ }؛ دل أن الأعمال الصالحة لا تنفع إذا لم يكن ثمة إيمان، ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً }.
قد ذكرناه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ... } الآية.
يحتمل وجهين:
يحتمل من أحسن دينا من المسلمين ممن يعمل جميع عمله موافقا لدينه - ممن لم يعمل؟! بل الذي عمل بجميع عمله موافقا لدينه - أحسن دينا من الذي لم يعمل شيئا، [وهو] كما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه] قال:
"لَوْ وُزنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - بإِيمان جميع أمتي، لرجح إيمانه" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوي في دينه، ضعيف في بدنه" ؛ ألا ترى أنه خرج لمقاتلة أهل الردة وحده؟! وذلك لقوته في الدين وصلابته فيه، لا لزيادة الإيمان، ولا لنقصان إيمان في غيره، والله أعلم.
والثاني: مقابلة سائر الأديان، أي: ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله - ممن لم يسلم وجهه لله ... إلى آخر ما ذكر، والله أعلم.
ثم قوله - تعالى -: { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله }، عن الحسن قال: أسلم جميع جهة أمره إلى الله، أي: جميع ما يعمل إنما يعمل لله، لا يعمل لغير الله.
وقيل: { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله }، أي: أخلص نفسه لله، ولا يجعل لأحد فيها شركا؛ كقوله - تعالى -:
{ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } [الزمر: 29] الأية، أي: يسلم نفسه له، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ مُحْسِنٌ } يحتمل وجهين:
يحتمل: قوله: { وَهُوَ مُحْسِنٌ }: يحسن ما يعمل، أي: جميع ما يعمل؛ لعلم له فيه.
ويحتمل قوله: { وَهُوَ مُحْسِنٌ }: من الإحسان، وهو أن يزيد العمل على المفروض عليه: يؤدي المفروض عليه، ويزيد على ذلك أيضاً.
وقوله - عز وجل -: { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَٰهِيمَ حَنِيفاً }.
الملة: قيل: هي الدين.
وقيل: الملة: السنة، [وكأن السنة] أقرب؛ لأن دين الأنبياء صلى الله عليه وسلم كلهم واحد، لا يختلف دين إبراهيم - عليه السلام - ودين غيره من الأنبياء، عليهم السلام.
وأما السنن والشرائع فيجوز أن تختلف؛ ألا ترى أنه رُوي في الخبر:
"ملة رسول الله صلى الله عليه سلم" ، وفي بعضها: "سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" : جعل السنة تفسير الملة؛ فالملة بالسنة أشبه.
ثم خص ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأن سننه كانت توافق سنن نبينا [محمد] صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { حَنِيفاً } قيل: مخلصاً.
وقيل: سمي حنيفاً، أي: مائلا إلى الحق؛ ولذلك سمي الأحنف: أحنفاً؛ لميل أحد قدميه إلى الأخرى، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }.
ذكر في بعض الأخبار أن الله - عز وجل - أوحى إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم: أن لي خليلا في الأرض؛ فقال: يا رب، من هو؟ قال: فأوحى الله - تعالى - إليه: لِمَ؟ أي: لم تسألني عنه؟ قال: حتى أحبه وأتخذه خليلاً كما اتخذته خليلا، أو كلام نحو هذا؛ فقال: أنت يا إبراهيم.
وأصل الخلة: المنزلة، والرفعة، والكرامة، يقول: { وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً }، أي: جعل له عنده منزلة وكرامة لم يجعل مثلها لأحد من الخلائق؛ لما ابتلاه الله ببلايا، وامتحنه بمحن لم يبتل أحداً بمثلها، فصبر عليها، من ذلك: ما ألقي في النار، فصبر، ولم يستعن بأحد سواه، وما ابتلي بذبح ولده، فأضجعه، وما أمر أن يترك أهله وولده الطفل في جبال مكة: لا ماء هنالك، ولا زرع، ولا نبات؛ ففعل، ومن ذلك أمر المهاجرة ... مما يكثر ذلك؛ فجائز تخصيصه بالخلة لذلك، والله أعلم.
وجائز أن يكون ذلك كرامة [أكرمه] الله بها؛ لأن أهل الأديان كلهم ينتسبون إليه، ويدَّعون أنهم على دينه، وعلى ذلك يخرج قوله:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، [وَعََلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ]" . قيل: خص هو بهذين الوجهين اللذين ذكرتهما في الخلة.
وقيل: إنه اتخذه خليلا؛ لأنه كان يعطي ولا يأخذ، وكان يحب الضيف، وكان لا يأكل وحده وإن بقي طويلا، والله أعلم بذلك.
وأصل الخلة ما ذكرنا من الكرامة والمنزلة؛ لأن من يحب آخر يبره ويكرمه، ومن لا يحبه يعادهِ، ويظهر له الجفاء، ولا قوة إلا بالله.
واختلف في المعنى الذي وصف إبراهيم - عليه السلام - بالخلة أنه خليل الله:
فقد قيل: بما سخت نفسه في بذل كل لذة من لذات الدنيا لله، وله تَبَوِّء في مكان إتيان الأضياف وأبناء السبيل، وكان لا يأكل وحده، وكانت عادته التقديم بكل ما يتهيأ له عند نزول الأضياف عليه، والابتداء بذلك قبل كل أمر، والقيام للأضياف مع عظم منزلته؛ أيد ذلك أمر الملائكة الذين جاءوه بالبشارة، والله أعلم.
وقيل: إنما امتحنه الله بأمور فصبر عليها؛ نحو النار ألقي فيها لله، وذبح الولد، والهجرة مرتين، وبذل الأهل والولد لله، حيث لا ضرع، ولا زرع، ولا ماء، وغير ذلك مما أكرمه الله - تعالى - بالثناء عليه: بوفاء ما امتحن، وإتمام ما ابتلي من قوله:
{ وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [النجم: 37]، وفي قوله - تعالى -: { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124].
ويحاج فرعونه وجميع قومه، ويجادلهم فيمن يعبدونهم، فغلبهم، وألزمهم حجة الله، وغير ذلك من وجوه المحن.
وقيل: بما به كان بدء البيت الذي جعله الله قياماً للناس، ومأمناً للخلق، ومثاباً لهم ومنسكاً؛ فعظم شأنه فيما بالخلق إليه حاجته في أمر الدين؛ وعلى ذلك أكرمه الله - تعالى - بميل القلوب إليه، وإظهار التدين بدينه من جميع أصناف أهل الأديان، والله أعلم.
وقيل: إنما هو: لله خصائص في أهل الخيرة من الرسل وأولي العزم منهم: اختصهم بأسماء عرفن في الفضائل والكرامات، نحو القول بكليم الله، وروح الله، وذبيح الله، وحبيب الله؛ فعلى ذلك كان لإبراهيم - عليه السلام - خصوصية في الاسم؛ فسماه الله خليلا؛ [فنحن نقول] - وبالله التوفيق -: ونحن نعلم بأن الله - تعالى - لا يسميه بالذي ذكر عبثاً باطلا؛ ولكنه سماه به تعظيماً لقدره، وإظهاراً لكرامته، وبياناً لمنزلته عنده لما شاء من الوجوه التي لعلها لم يطلع عليها من الخلق، ولا يحتمل أن يدرك ذلك إلا بالوحي؛ فحق ذلك علينا تعظيمه ومعرفته بالذي اختصه الله واصطفاه، دون تكلف المعنى الذي له كان ذلك، مع ما لا وجه ولا معنى صار حقيق ذلك وأكرم به، إلا بمعنى أكرمه الله وأكرمه بفضل الله ورحمته؛ فلله أن يبتدئه بالخلة ثم يكرمه بأنواع الكرامات التي هي آثار الخلة، وأن يكرمه بأنواع الكرامات التي لديها تقع كرامات الخلة ويصلح، ولله المنُّ في ذلك والفضل، وعلينا الحمد لله والشكر؛ بما أكرمنا من معرفة كرام خلقه، وجعل [قلوبنا عامرة بمودتهم]؛ حتى صاروا - بفضل الله ورحمته - أحب إلينا من أمسِّ الخلق بنا، بل من أنفسنا، ولا قوة إلا بالله.
ثم ليس للنصارى ادعاء النبوة لله من حيث الكرامة على الاعتبار بالخلة؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - عظم أمر الأولاد حتى جعله كالشرك، ولا كذلك أمر الخلة، ولأن أمر الأولاد حقه المجانسة، والخلة حقه الموافقة.
ثم أصل الأولاد: الشهوة والحاجة، والخلة: الطاعة والتعظيم، مما يرجع أحد الوجهين إلى شهوة الولد وحاجته، والآخر إلى تعظيم يكون من ذلك العبد وتبجيله والطاعة له والخضوع.
ثم الأصل: أن المعنى الذي تقتضيه الخلة [قد يجوز] أن يظفر كل بالطاعة، وإن كان الاسم له في حق النهاية؛ نحو قوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ... } الآية [البقرة: 222]، وقوله - تعالى -: { فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31]، والمحبة قريبة من الخلة، ومحال أن يحق معنى الأولاد والنبوة بشيء من الطاعة؛ لذلك اختلف الأمران، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ... } الآية.
تأويل هذه الآية - والله أعلم - أنه وإن أكرمهم وأعظم منزلتهم عنده وأعلاها - فإنهم لم يأنفوا عن عبادته، ولم يخرجوا أنفسهم من أن يكونوا عبيداً؛ بل كلما ازداد لهم عند الله - والله أعلم - منزلة وقدر - كانوا أخضع له وأطوع؛ كقوله - تعالى -:
{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27]، وفي موضع آخر: { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ... } الآية [الأنبياء: 19].
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً }.
أي: أحاط بكل شيء علمه، وهو يخرج على الوعيد، أي: عن علم منه خلقهم لا عن جهل بصنيعهم كملوك الأرض، وبالله التوفيق.
وقوله - عز وجل - أيضاً: { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } وبصيراً، وعليما، ونحو ذلك يخرج على التوعيد والتخويف؛ ليكونوا مراقبين له، حذرين؛ كمن يعلم في الأمور أن عليه رقيباً، والله أعلم.
ويخرج على الابتلاء: أنه أمر من يكتب الأعمال لا للخفاء عليه، لكن بما إذ لا يمتحن لحاجة به؛ ولكن لمصلحة عباده، فيمتحن بما شاء، فامتحن أولئك الكتبة بما يكونون أبداً متيقنين ناظرين، لا يغفلون عن ذلك؛ طاعة منهم لله.
والثاني: أن يكون العلم بمن يكتب عليه كل أمره - فيما جُبل عليه البشر - أذكر له وأشد في التنبيه؛ فجرى حكم الله في ذلك؛ إذ أمر المحنة موضوع على المصلحة، وذلك أبلغ في الوجود، والله أعلم.
ويخرج على أن الله - تعالى - كان بذلك محيطاً؛ ليعلموا أنهم لا يتركون سُدى، بل يحصى عليهم للجزاء، والله أعلم.
وجملة ذلك: أن الله - تعالى - قال كان كذا؛ ليعلم أنه لا عن جهل خلق الخلق وبعث الرسل، وأنشأ الآيات، مما عليه أمر الخلق أنهم كيف يعاملون من ذكرت، وذلك خارج على حد الحكمة، وإن كان لا يعرفون في بعث الرسل إلى من يكذبهم، ولا تقوية الأعداء على ما به قهر الأولياء، ولا الأمر والنهي لمن يعلم أنه لا يأتمر ولا ينتهي - كبيرَ حكمة، وبما كان ذلك من الله فهو خارج على حد الحكمة؛ إذ ذلك كله من الخلق يقع لحاجة أو لمنفعة ترجع إليهم؛ فإذا ناقض - خرج الفعل من الحكمة. فأما الله - سبحانه وتعالى - يمتحن عباده، ويبعث الرسل - عليهم السلام - لحاجة بالمبعوث إليهم وبالممتحنين، ولمنافع ترجع إليهم؛ فيكون ذلك منه كهدايا؛ فمن لا يقبلها فنفسه يضر ولحقها يبخس، لا أن يرجع إليه ذلك؛ فزال ذلك المعنى الذي له خرج الفعل من الخلق عن حد الحكمة؛ فلزم القول بموافقة الحكمة والمصلحة، ولا قوة إلا بالله.