التفاسير

< >
عرض

فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً
١٦٠
وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٦١
لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ أُوْلَـٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
١٦٢
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }.
لولا آية أخرى سوى هذه؛ [وإلا] صرفنا قوله - سبحانه وتعالى -: { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ } على المنع، دون حقيقة التحريم؛ لأنهم أهل كفر؛ فلا يبالون ما يتناولون من المحرم والمحلل، ولا يمتنعون عن التناول من ذلك؛ فإذا كان ما ذكرنا - فيجيء أن يعود تأويل الآية إلى المنع؛ كقوله - تعالى -:
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } [القصص: 12] فليس هو على التحريم؛ ولكن على المنع؛ أي: منعناه؛ فلم يأخذ من لبن المراضع دون لبن أمه؛ فعلى ذلك يجب أن يكون الأول.
ثم المنع لهم يكون من وجهين:
أحدهما: منع من جهة منع الإنزال؛ لقلة الأمطار والقحط؛ كسني يوسف - عليه السلام - وسني مكة، على ما كان لهم من القحط.
والثاني: منع من جهة الخلق: ألا يعطوا شيئاً، لا بيعاً ولا شراء ولا معروفاً.
ولكن في آية أخرى بيان أن قوله: { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } - أنه على التحريم، ليس على المنع، وهو قوله:
{ وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } [الأنعام: 146]: أخبر - عز وجل - أن ذلك جزاء بغيهم؛ فدل ما ذكرنا في الآية أن ذلك على حقيقة التحريم؛ لما يحتمل أن يكونوا لا يستحلون ما ذكر في الآية، ولكن كانوا يتناولون الربا على غير الاستحلال؛ فحرم ذلك عليهم.
وفي قوله - تعالى -: { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } دلالة لأصحابنا - رحمهم الله - في قولهم: إن من قد أَقَرَّ، فقال: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه له، ولا يؤخذ منه؛ وإلا في ظاهر قوله: هذا الشيء لفلان اشتريته منه - أنه إذا اشتراه منه لا يكون لفلان؛ فيكون ذلك منه إقراراً له، لكنه على الإضمار؛ كأنه قال: هذا الشيء كان لفلان اشتريته منه.
وكذلك قوله: { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } أي: كانت أحلت لهم، وكذلك في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - وحرف ابن عباس - رضي الله عنهما -: "حرمنا عليهم طيبات كانت أحلت لهم".
وقوله - عز وجل -: { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً }.
أي: بصدهم الناس عن سبيل الله كثيراً، يحتمل هذا وجهين:
يحتمل: أنهم صدوا من يستجهلون ويستسفهون عن سبيل الله: كانوا يدلون على الباطل وعلى غير سبيل الله، فذلك الصد محتمل.
ويحتمل: أنهم كانوا يصدون عن سبيل الله بالقتال والحرب.
وقوله: { وَأَخْذِهِمُ ٱلرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ }.
دل أن الربا لم يزل محرماً على الأمم كلها كما حرم على هذه الأمة.
وقوله - عز وجل -: { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ }.
يحتمل هذا وجهين:
[يحتمل] أكل أموالهم بالباطل: هو الرشوة؛ كقوله - تعالى -:
{ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ } [المائدة: 62] قيل: هو الرشوة.
وقيل: ما كانوا ينالون من أموال الأتباع والسفلة؛ بتحريفهم التوراة لهم، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقوله - عز وجل -: { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً... }.
الآية ظاهره.
وقوله - عز وجل -: { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ }.
استثنى الراسخين [في العلم] منهم. والرسخ: هو ثبات الشيء في القلب؛ يقال: رسخ العلم في القلب، ورسخ الإيمان في القلب.
وقوله: { لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَٱلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ }.
رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: هذا خطأ من الكاتب؛ هو: "المقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة".
وكذلك في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة".
وقال الكسائي: وجه قراءتنا: { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } يقول: يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ويؤمنون بإقامة الصلاة؛ كما قال - عز وجل - في سورة البقرة
{ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } [البقرة: 177] معناه: ولكن البر الإيمان بالله.
وقال بعضهم: قوله - تعالى -: { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } يعني: الرسل.
وفي حرف حفصة - رضي الله عنها -: "لكن الراسخون في العلم يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر سوف نؤتيهم أجراً عظيماً"، وكذلك في حرف أُبي: { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } بالنصب.