التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً }.
الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز؟! لكنه يحتمل - والله أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف؛ كأنه قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عز وجل -:
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } [مريم: 62] استثنى السلام، والسلام ليس من جنس اللغو، لكن معناه ما ذكرنا: لا يسمعون فيها لغواً، ولكن يسمعون فيها سلاماً.
ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام؛ كقوله - تعالى -:
{ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ } [الحجر: 58-59] دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصّة؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين؛ دل الثنيا على مراد الخصوص؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض، وإن كان - في الحقيقة - يصير مال هذا بمال هذا، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه؛ فيلزمه بدله؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصاً؛ فهو - في الحقيقة - تجارة.
أو يحتمل: أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب.
وفيه دليل: أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل، وترك الشيء بالشيء؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى -: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [البقرة: 16].
وفيه دلالة: أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين، وليس كما قال قوم: لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"المُتَبَايِعَانِ بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَتَفْرَقَا" - لكن معناه عندنا: أن يقول الرجل للرجل: بعتك عبدي بكذا، فلصاحبه أن يقول: قبلت البيع، ما دام في مجلسه.
أو يحتمل: أن يكون إذا قال: بعتك، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر: قبلت.
على أن قوله - عليه السلام -:
"مَا لَمْ يَتَفْرَّقَا" ، لا يوجب أن يكون تفرقاً عن المكان [و] تفرق الأبدان؛ ألا ترى أن الله - سبحانه وتعالى - قال: { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ }، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق.
على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ }. ومما يدل على ذلك - أيضاً -: قوله - تعالى -:
{ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] فلو كان البيع لا يتم بالتراضي؛ فمتى يشهد: قبل التفرق أو بعد التفرق؟ إن أشهد قبل التفرق، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب؛ إذ كان البيع لم يتم، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة.
وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد؛ فأين التحصين الذي أمر الله تعالى؟!
ومما يدل على تأويلنا في الخبر: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الْبَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنَ بَيْعِهِمَا، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا خِيَارٌ" ، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "الْبَيعَانِ بالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَلاَ يَحِلُّ لأَِحدٍ أَنْ يُعَجِّلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَسْتَقيلَهُ" .
وقوله: "يستقيله" يدله على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه؛ ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا" - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره.
ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب: قول عمر - رضي الله عنه - إن البيع عن صفقة أو خيار؛ فكان موافقاً لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: دل قوله - تعالى -: { لاَ تَأْكُلُوۤاْ... } إلى قوله: { تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ } - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل، ومعروف أن تفرق المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف - فيما هو عند الخلق - تجارة، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة، وقد أذن في الأكل، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا، وأيّد ذلك قوله:
{ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد، لا التفرق، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود، ولا يجوز شذوذ العلم بحقٍّ ذلك محله؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أئمة الهدى، لا ينتهون عن ذلك، والله أعلم.
فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار: أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه، بل لعله بغيره أولى، ثم يخرج على وجوه:
على إضمار: حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل، لا في حق العبادة عن واجب؛ دليله رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفْرَّقَا" .
أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه؛ خشية أن يستقيله؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة، والله أعلم.
والثاني: أن يريد به: ما داما في التبايع؛ دليل ذلك احتمال اللفظ [في] قوله - سبحانه -:
{ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282] والإشهاد على التبايع، والتبايع هو فعل اثنين، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع، وهذا أحق بوجوه:
أحدها: حق اللغة أنه اسم التفاعل، وهو اسم لفعلهما؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه: كالتضارب، والتقاتل، ونحو ذلك، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل.
والثاني: بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"البَيِّعَانِ بِالْخِيَّارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفٌ" ، والله أعلم.
والثالث: متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان، والله أعلم.
والرابع: أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح، وإذا تفرقا لا، وهو أولى؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطاً للفساد ومنع الإصلاح، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض؛ فهو على الوجود قبل التفرق، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر: اختر - انقطع خياره لو كان تفرقاً من القول، وليس فيه زيادة على ما في قوله: بعت منك، في حق الإصلاح؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح، لا للإصلاح - والله أعلم -
قوله: إن للناس عرفاً في التبايع من وجهين:
أحدهما: في التعاقد.
والثاني: في التقابض؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما، وجاز ذلك - أيضاً - بحق الآية في الإباحة عن تراض، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع؛ كقوله - تعالى -:
{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة: 16] وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } [التوبة: 111] وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى -: { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [البقرة: 16] وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية؛ إذ قد جعل الرضا سبباً، وهو بما يجهل غير محق، وإنما يعلم بالرؤية.
وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد؛ إذ التجارة للأكل، ولا يوصل إليه إلا بالقبض، فإذا فات، فات ما له التجارة؛ فيبطل، والله أعلم.
وفي قوله - أيضاً -: "تبايعا" وإن كان اسما لفعل اثنين، فلما يتصل صحة كلام كل واحد منهما إذا كان الآخر حاضراً؛ فكأنهما اشتركا في صحته؛ فصارا به متبايعين، نحو قوله: [حتى يتفرقا]، والتفرق اسم لفعل اثنين، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما يجنب الآخر؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما، والله أعلم.
وقوله - جل وعز -: { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ }.
يحتمل وجهين:
أي: لا يقتل بعضكم بعضاً؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به.
والثاني: أنه أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة؛ إذ كلهم من جنس واحد، ومن جوهر واحد.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً }.
أي: من رحمته: أن جعل لكم فيما بينكم القصاص، وأخذ النفس بالنفس، والمال بالمال، وفي ذلك حياة أنفسكم، وإبقاء أموالكم.
ومن رحمته - أيضاً -: أن جعلكم من جوهر واحد؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره، ويسكن إليه، والله أعلم.
ومن رحمته: أرسل إليكم الرسل، وأنزل عليكم الكتب، وأوضح لكم السبل.
ومن رحمته: أن أمهل لكم، وستر عليكم، ودعاكم إلى المتاب.
ومن رحمته: دفع عنكم الآفات، وأوسع لكم الرزق، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا، وسلموا عن كل داء.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً } [النساء: 30] عدواناً لمجاوزته حدود الله، وظلماً على صاحبه. والعدوان هو التعدي والمجاوزة عن حدود الله؛ كقوله - تعالى -:
{ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ } [البقرة: 229].
ويحتمل قوله: { وَظُلْماً } على نفسه؛ كقوله - عز وجل:
{ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [الطلاق: 1] وقوله - تعالى -: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [البقرة: 229]، وقوله تعالى: { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة: 36].
وهذا الوعيد - والله أعلم - لما يفعل ذلك مستخفّاً بحدود الله واستحلالا منه لذلك؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها - لم يستوجب هذا الوعيد؛ ألا ترى أنه قال - تعالى -:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } ثم قال - عز وجل -: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [البقرة: 178] إنما جاء هذا في قتلى العمد، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة، ويخلد في النار؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى -: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا } [النساء: 93] إذا قتله مستحلا له مستخفّاً بتحريم الله إياه؛ فاستوجب هذا الوعيد، وأما من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا والله أعلم.
وقوله - تعالى، أيضاً -: { عُدْوَاناً وَظُلْماً } يحتمل: الاستحلال؛ دليله قوله - عز وجل -:
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } ثم قال - عز وجل -: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [البقرة: 178]، وقال: { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فأبقى الأخوة التي كانت بقوله - عز وجل -: { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }؛ فثبت أن الإيمان بعدُ باق فأبقى له الرحمة والأخوة، وهاهنا زال؛ لذلك افترقت الآيتان.
والثاني: أنه وعد اختلافهم، ولم يذكر الخلود، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير.
والأصل في هذا ونحوه: أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثَمَّ خلود، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان، ويبطل عنه حق فعله، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ }.
اختلف فيه:
قال بعضهم: كبائر الشرك؛ لأن كبائر الشرك أنواع، منها: الإشراك بالله، ومنها جحود الأنبياء صلى الله عليه وسلم، ومنها: الجحود ببعض الرسل، عليهم السلام، ومنها: جحود العبادات، واستحلال المحرمات، وتحرم المحللات، وغير ذلك وكل ذلك شرك بالله.
فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعوداً لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى -:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء: 38، 116] وعد المغفرة لما دون الشرك، وقرنها بمشيئته؛ فهو في مشيئة الله - تعالى -: إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، وبالله التوفيق.
وقيل: أراد بالكبائر [كبائر] الإسلام.
ثم يحتمل وجهين بعد هذا:
يحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر.
ويحتمل: أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات؛ ألا ترى أنه قال في آخره: { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }، والتكفير إنما يكون [بالحسنات]؛ ألا ترى أنه قال:
{ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114] أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات.
ويحتمل: أن يكون التكفير لها جميعاً وإن لم تجتنب؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى:
{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } إلى قوله - عز وجل -: { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } [البقرة: 271] وقال - عز وجل -: { تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [التحريم: 8]؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شَفَاعَتِي نَائِلَةٌ لأَِهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمُّتي" .
وروي عن علي [بن أبي طالب] - رضي الله عنه - أنه سمع امرأة تدعو: اللَّهُمَّ اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "مَهْ! فَقُولي: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ؛ فَإِنَّ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لأَِهْلِ الكَبَائِرِ" ثم قرأ: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ... } الآية.
ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها:
فقال بعضهم: ما أوجب الحد فهو كبيرة: من نحو الزنا، والسرقة، والقذف، وغير ذلك.
وقال آخرون: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وقول البهتان، والفرار من الزحف.
وروي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - [أنه سئل عن ذلك؟ فقال: "من أول السور إلى هنا من المحرمات، فهو من الكبائر.
وروي أنه قيل لابن عباس: إن عبد الله بن عمر، يقول: الكبائر تسع. فقال] ابن عباس - رضي الله عنه -: هنّ إلى التسعين أقرب، ولكن لا كبيرة مع توبة، ولا صغيرة مع إصرار.
وروي عن الحسن قال: قال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم:
"مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هُنَّ فَوَاحِشُ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ ثم قال [رسول الله] صلى الله عليه وسلم: أَلاَ أُنْبَئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإِْشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ قال: وكان متكئاً فجلس ثم قال: أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ قاله ثلاثاً" .
وقوله - تعالى -: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ }.
ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر، فهو في مشيئة الله: [إن شاء كفر، وإن شاء عذب]؛ على ما ذكرنا: أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى، حظراً كان أو إحلالا، والله أعلم.
ويقرأ في بعض القراءات: (إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفاً: أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك، [والله أعلم].
قوله - عز وجل -: { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً }.
قيل: الجنة.