التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً
٧١
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً
٧٢
وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
٧٣
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ }.
قيل: خذوا عدتكم من السلاح.
وقيل: قوله: { خُذُواْ حِذْرَكُمْ } من جميع ما يحترز به العدو؛ كقوله - سبحانه وتعالى -:
{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ... } الآية [الأنفال: 60]، وكقوله - تعالى -: { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } [التوبة: 46] أمر الله - عز وجل - بالاستعداد للعدو، والإعداد له، وألا يوكل الأمر في ذلك إلى الله دون الإعداد للعدو.
وقيل: لقاؤه، وإن كان يقدر [على] نصر أوليائه وقهر عدوه من غير الأمر بالقتال معهم؛ إذ في ذلك محنة امتحنهم بها؛ فعلى ذلك أمرهم بالإعداد للعدو، وأخذ الحذر لهم، وذلك أسباب تعد قبل لقائهم أياه.
وفيه دلالة تعلم آداب الحرب قبل لقاء العدو؛ ليحترس منه.
وفيه دلالة إباحة الكسب؛ لأنه فرض عليهم الجهاد، وأمر بالإعداد له؛ ليحترس من العدو، ولا يوصل إلى ذلك إلا بالكسب، والله أعلم.
وفي قوله - أيضاً -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي: ما تحذرون به عدوكم، وما تحذرونه وجوه: منها: الأسلحة، ومنها: البنيان، ومنها: النُّكْر عند الالتقاء، والثبات، وذكر الله - عز وجل - كما قال:
{ فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } [الأنفال: 45].
وفي هذا الأمر بالإعداد للعدو قبل اللقاء، وأيد ذلك قوله - عز وجل -:
{ وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } [التوبة: 46]، وكذلك قوله: { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] فيكون الأمر بالإعداد قبل وقت الحاجة دليل جواز الكسب لحاجات تجددت، وأن الاستعداد للحاجات ليس برغبة في الدنيا؛ إذ لم يكن الإعداد فشل ولا ترك التوكل، على أن الجوع وحاجات النفس تعين وتلقى العدو، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } قيل: الثبات: هو السرايا { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } يعني: عسكراً.
وقيل: { ثُبَاتٍ } يعني: فرقاً، { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } مجموعاً.
وقيل: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ } أي: عصباً، { أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً }.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: زحفاً.
وقيل الثبات: الأثبات، والثبة في كلام العرب الجمع الكثير، ومعناه: انفروا كثيراً أو قليلا، وفي ذلك دلالة الأمر بالخروج إلى العدو فرادى وجماعة، وفرقاً وجماعة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ } أي: إذا استنفرتم فانفروا ذلك.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } ومعلوم أن عليهم الدفع، فيحتمل أن يكون قوله - تعالى -: { ٱنْفِرُواْ } إذا أَزُّوا؛ أي: على ما استنفرتم من جميع أو بعض؛ فيكون في ذلك دلالة قيام البعض عن الكل على غير الإشارة إلى ذلك، وقد يجب فرض في مجهول على كل القيام حتى يعلم الكفاية [بمن خرج، وهو كفرائض] تعرف لا تعرف بعينها، أو حرمات تظهر لا يعرف المحرم بعينه، فعلى من حرم عليه الإيفاء والقيام بجميع الفرائض؛ ليخرج عما عليه، ثم إذا غلب عليهم في التدبير الكفاية بمن خرج سقط عن الباقين، ولو لم يكن يسقط لم يكن للإمام استنفار البعض؛ يدل على ذلك قوله - تعالى -:
{ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ... } الآية [التوبة: 122]، وقوله - تعالى -: { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } [التوبة: 123] وأصله أنه فرض لعله لا يجوز بقاؤه، وقد زالت العلة، على أن خروج الجميع من جهة إبداء للعورة من جهات؛ فلذلك لم يحتمل تكليفه بخروج الجميع من جهة استنفر منها، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } قوله: { مِنْكُمْ } يحتمل وجوهاً.
يحتمل: في الظاهر منكم.
ويحتمل: في الحكم منكم.
ويحتمل: في الدعوى؛ لأنهم كانوا يدعون أنهم منا، ويظهرون الموافقة للمؤمنين، وإن كانوا - في الحقيقة - لم يكونوا.
وقوله - تعالى - { لَّيُبَطِّئَنَّ } قيل: إن المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد ويتخلفون؛ كقوله - تعالى -:
{ قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } [الأحزاب: 18] كانوا يسرون ذلك ويضمرونه، فأطلع الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى.
وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ... } على التقديم والتأخير [يسرّ ويفرح] إذا أصابتكم مصيبة كأن لم يكن بينكم وبينه مودة؛ لأن [كل] من كان بينه وبين آخر مودة إذا أصابته نكبة يحزن عليه ويتألم، فأخبر الله - عز وجل - أن هؤلاء المنافقين إذا أصابت المؤمنين نكبة يسرون بذلك ولا يحزنون، كأن لم يكن بينهم مودة ولا صحبة.
وقوله - عز وجل -: { وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله } يعني: الغنيمة والفتح، [يقولون:] { يٰلَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } أي: يأخذ من الغنيمة نصيباً وافراً.
وقوله - عز وجل -: { فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } هذا قول المكذب الشامت: { وَلَئِنْ أَصَٰبَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله... } الآية، هو قول الحاسد؛ وهو قول قتادة.
وقوله - تعالى -: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } يعني: ليتخلفن عن النفير: { فَإِنْ أَصَٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } يعني: شدة وبلاء من العيش والعدو، { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } فيصيبني ما أصابهم: { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ }.
وقوله - عز وجل -: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } دل أن فرض الجهاد فرض كفاية يسقط بقيام البعض عن الباقين؛ لأنه قال: { فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنْفِرُواْ جَمِيعاً } أمر بنفير الثبات، فلو كان لا يسقط بقيامهم عن الباقين لم يكن للأمر به معنى، وتأويله - والله أعلم -: إذا قيل لكم، انفروا، فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً.