التفاسير

< >
عرض

إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
٩٠
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ وَيَكُفُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
٩١
-النساء

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ }.
قال بعضهم: استثنى الذين خرجوا من دار الهجرة مرتدين إلى قومهم، وكان بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وقال: وفيهم نزل قوله - تعالى -:
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 4] كأنه قال - والله أعلم -: إن وصل هؤلاء إلى أولئك الذين بينكم وبينهم عهد وميثاق - فلا تقاتلوهم.
وقيل: كان هذا في حي من العرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان وعهد، وكانت الموادعة على أن من أتاهم من المسلمين فهو آمن، ومن جاء منهم إلى المؤمنين فهو آمن، يقول - والله أعلم -: إن وصل هؤلاء أو غيرهم إلى أهل عهدهم - أو قال: عهدكم - فإن لهم مثل الذي لأولئك من العهد وترك القتال.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما صد مشركو مكة نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البيت - جاء رجل - يقال كذا من بعض القبائل - لينظر ما أمر محمد وقريش؛ فرآهم قد حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين البيت، فقال: يا معشر قريش، [هلكتم]؛ أتردُّون قوماً عمار ضفروا رءوسهم عن البيت، والله لا نشرككم في هذا؛ فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم ووادعه ألا يكونوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكونوا عليه، ومن لجأ إليه فهو آمن.
فلا ندري كيف كانت القصة في ذلك، غير أن فيه دليلا أن من اتصل بأهل العهد وكان على رأيهم - فهو بمنزلتهم، لا نقاتلهم.
ومن قولنا: إن الإمام إذا وادع أهل بلدة من بلدان أهل الحرب، فمن دخل فيها أو اتصل بهم فهم آمنون مثلهم؛ لا يحل قتالهم، ولا أسرهم، حتى ينبذ إليهم عهدهم، وإذا أمَّن قوماً منهم في دار الإسلام ووادعهم، ثم انضم إليهم آخرون، فدخلوا معهم دار الإسلام - له قتالهم وأسرهم. والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ }.
قيل: أي: ضيقة صدورهم، وهكذا قال الكسائي: كل من ضاق صدره عن فعل أو كلام؛ [فقد حصر]، فهذا - والله أعلم - ما ذكرنا: أن الموادعة ألا يعين بعضهم بعضاً في القتال، ولا يعينوا عليهم عدوهم، فنهاهم الله عن قتالهم؛ لما أخبر أن قلوبهم تضيق على أن يقاتلوكم مع قومهم أو أن يقاتلوا قومهم معكم.
وفي قوله - تعالى - أيضاً: { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } يحتمل: أن يكون حكم هذا الحرف ما ضَمَّنه الحرف الأول؛ فيكون ذلك الشيء عمن ذكرت إذا كان هذا صفته - أن يضيق صدره عن مقاتلة المؤمنين والكافرين جميعاً: إما بالطبع، أو بوفاء العهد، أو بالنظر في الأمر؛ ليتبين له الحق، وهو متردد في الأمر؛ بما يجد المعروفين بالكتب التي احتج بها الرسول صلى الله عليه وسلم مختلفين فيه على ما عقولهم مرتقب بهم، أو تخلف عن الإحاطة بحق الحق إلا بعد طول النظر، والله أعلم؛ فيكون معنى قوله: { أَوْ جَآءُوكُمْ } بمعنى: وجاءوكم.
ويحتمل: في قوم سوى ما ذكرت من الذين يصلون، لكن في أولئك المعاهدين نفسه الذين أبت أنفسهم نقض العهد بينهم وبين المؤمنين، وعزموا على الوفاء به، وأبت أنفسهم - أيضاً - معونة المؤمنين على قومهم بالموافقة بالمذهب والدين، وعلى ذلك وصف جميع المعاهدين الذين عزموا على الوفاء بالعهد، وذلك في حق الآيات التي ذكرنا، ثم بين الذين يناقضون العهد، أو المنافقين الذين متى سئلوا عن الكون على رسول الله والعون لأعدائه - الأمر فيهم؛ وذلك كقوله تعالى:
{ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ } [الأحزاب: 13]. إلى قوله: { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا } [الأحزاب: 14] وتكون هذا الآية فيهم؛ كقوله - تعالى -: { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ٱلْمُنَافِقُونَ... } الأية [الأحزاب: 60]؛ فيكون في هذه الآية الإذن، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ }.
أي: نزع من قلوبهم الرعب والخوف؛ فقاتلوكم، ولم يطلبوا منكم الصلح والموادعة.
{ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ }.
يعني: طلبوا الصلح، وهو قول ابن عباس، رضي الله عنه.
وقيل: قالوا: إنا على دينكم، وأظهروا الإسلام.
{ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }.
أي: حجة وسلطان القتال، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن هؤلاء.
ثم قال: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ... } الآية.
قيل: كان رجال تكلموا بالإسلام متعوذين؛ ليأمنوا في المسلمين إذا لقوهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فأمر الله بقتالهم، إلا أن يعتزلوا عن قتالهم.
وقيل: قوله - تعالى -: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } غيرهم ممن لا يفي لكم ما كان بينكم وبينهم من العهد.
{ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } يقول: يريدون أن يأمنوا فيكم؛ فلا تتعرضوا لهم، ويأمنوا في قومهم بكفرهم؛ فلا يتعرضوا لهم.
ثم أخبر - عز وجل - عن صنيعهم وحالهم، فقال:
{ كُلَّ مَا رُدُّوۤاْ إِلَى ٱلْفِتْنِةِ }.
يعني: الشرك.
{ أُرْكِسُواْ فِيِهَا }
أي: كلما دُعوا إلى الشرك فرجعوا فيها، فهؤلاء أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، وعرفه صفتهم، إن لم يعتزلوا ولم يكفوا أيديهم عن قتالكم.
{ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـٰئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً }.
أي: جعلنا لكم عليهم سلطان القتل وحجته.
[و] في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ويكفوا أيديكم عن أن يقاتلوكم"
وفي حرفه: "ركسوا فيها".
وفي حرف حفصة: "ركسوا فيها"
وفي حرفها: "إن يقاتلوكم ويقاتلوا قومهم".
ثم يحتمل نسخ هذه الآية بقوله:
{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [البقرة: 190].
وقوله - تعالى -: { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوۤاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ } بقوله - عز وجل -:
{ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة:5]؛ [لأن الفرض في القتال أول ما كان فرض أنه يقاتل من قاتلنا وبدأنا، ثم إن الله - تعالى - قال: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ } ] [التوبة: 5].