التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ
٢٨
يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ
٢٩
وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ
٣٠
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ
٣١
وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ
٣٢
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
٣٣
وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ
٣٤
ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
٣٥
-غافر

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ }.
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: من آل فرعون في الظاهر، وإلا لم يكن في الحقيقة من آله، وإنما هو من آل موسى وأتباعه؛ حيث آمن به وترك اتباع فرعون، والله أعلم.
والثاني: من آله، أي: من نسبه؛ لأنه ذكر أنه كان ابن عمه، والله أعلم.
وقوله: { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ }.
إشفاقاً على نفسه، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه؛ إذ قدر على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم، وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظهر ما أريد منه من كلمة الكفر ولا يقتل بالامتناع لا يسع له إظهار ذلك لهم، فإن لم يقدر فحينئذ يسع؛ فعلى ذلك ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ }.
فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه؛ إشفاقاً على نفسه، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى - عليه السلام - فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه وإن كان نفسه تهلك إذا أظهر إذا كان في إظهار ذلك نجاة رسول من رسل الله تعالى - عليهم السلام - بحجج يدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول؛ وكذلك ذكر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -
"أن أهل مكة لما هموا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإهلاكه، ألقى أبو بكر - رضي الله عنه - نفسه عليه، وقال ما قال ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حيث قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن نزلت قبل ذلك" ، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }.
أي: جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند الله لا اختراعاً من موسى - عليه السلام - ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي.
وقوله: { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ }.
أي: وإن كان كاذباً فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه، وإن كان صادقاً فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر، ذكر على ما في زعمهم؛ دفعاً للقتل عن موسى، عليه السلام.
ثم الإشكال أنه قال: { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل، [والرسل] إذا وعدوا شيئاً يصيبهم بكماله، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا، لكن يخرج على وجوه:
أحدها: أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة، فيقول: { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ }، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا، وأما ما وعد لهم في الآخرة، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
والثاني: يحتمل أنه كان - عليه السلام - وعدهم بأنواع من العذاب، وقد أصابهم بعض ذلك الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم؛ فكأنه يقول لهم: إنكم قد أصابكم كثير من ذلك، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب، ولم يكن وعده كذباً، فبعض ما يعدكم - وهو الهلاك - كيف يكون كذباً؟! والله أعلم والموفق.
والثالث: [أراد] بالبعض: الكل؛ لأنه أراد بهذا البعض: الهلاك، وهو البعض الأقصى، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله، ويكون ذكره ذكرا للكل؛ إذ لا وجود له بدون سائرها؛ لذلك قال: { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ }، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب.
والثاني: لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب.
وقوله - عز وجل -: { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا }. يخرج على وجهين:
أحدهما: يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه: إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك، فإذا جاء بأس الله وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم، فمن ينصرنا من عذاب الله وليس معنا ذلك؟! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب الله، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم؛ إظهاراً للعذر عندهم؛ كي لا يقدموا على قتله لصيانة حياته، ومثل هذا لا بأس به، والله أعلم.
والثاني: يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر؛ يقول: إنه قد جاءنا من الله البينات ما أوضح الحق وبين السبيل، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس الله جملة وعذابه، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه؟! على هذين القولين يخرج القول منه، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ }.
قال بعضهم: أي: ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي.
وقال بعضهم: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك، لكن [ليس] للعين أن يختار لهم ما اختار لنفسه؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد، وكذب اللعين أيضاً حيث قال: ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أولئك أن يعبدهم، فهو كذب من القول.
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ }.
كذب أيضاً في قوله: إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد، بل كان يهديهم سبيل الغي.
وقوله - عز وجل -: { يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ }.
كأن فيه إضمار القول: إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب، ويوم مثل يوم قوم نوح وعاد، فهو - والله أعلم - صلة قوله فيما تقدم: { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات؛ حيث قال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }، وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات، هذا منه احتجاج عليهم: أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان؟! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به، والله أعلم، ووعظهم أيضاً وعظاً لطيفاً فيه رفق حيث قال: { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } يقول - والله أعلم -: إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعدما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه، فجاءكم عذاب الله وبأسه، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق؟! ثم وعظهم وعظاً بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال: { مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } يقول: إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى - عليه السلام - وترككم اتباعه بعدما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى، بعدما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم، والله أعلم.
ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود، ويحتمل سواهم من الأمم، والله أعلم.
ثم قوله: { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } قال بعضهم: أي: مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم.
وقال بعضهم: أي: مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ }.
في هذه الآية للمعتزلة نوعُ تعلقٍ؛ يقولون: إن الله تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلماً للعباد.
ولكن الآية في التحقيق عليهم؛ لأنه قال في آية أخرى:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } [آل عمران: 176] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم، والله أعلم.
ثم تأويل الآية يخرج على وجهين:
أحدهما: أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار، فكأنه قال: والله لا يظلم عباده؛ كقوله تعالى:
{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46].
والثاني: فيه إخبار أنه لا يعاقَبُ أحد بذنب غيره، ولا يؤاخذ بجريمة غيره، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب، أو لا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئاً؛ كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40] وغير ذلك من الآيات ما فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون ليس على ظن أولئك، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ... } الآية.
وعظهم أيضاً بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول، بعدما وعظهم بعذاب الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم، وهو ما قال: { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ... } الآية.
ثم قوله: { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } فيه لغات ثلاث:
إحداها: { يوم التنادي } بالياء.
والثانية: بالتخفيف على حذف الياء.
والثالثة: بالتشديد.
فمن قرأها بالتشديد، يقول: هو من ند يند ندّاً إذا مضى لوجهه هارباً فارّاً من عذاب الله، إذا عاينوا العذاب، وهو من ند الإبل وغيره - والله أعلم -.
ومن قرأه بالياء فهو التفاعل من النداء، فهو على نداء بعضهم بعضاً يوم القيامة؛ كقوله - تعالى -:
{ { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [الأعراف: 44]، وقوله - عز وجل -: { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } [الأعراف: 50]، وقوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص: 62]، وقوله: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65] ونحوه.
ومن قرأه بغير الياء، فقد حذف الياء؛ كقوله:
{ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه: 72]، وأصله: التنادي، والله أعلم.
ثم قوله تعالى: { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } قال بعضهم: يوم تولون هاربين من النار مدبرين عنها؛ كقوله تعالى:
{ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } [عبس: 34].
وقوله - عز وجل -: { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ }.
أي: ما لكم من عذاب الله إذا نزل بكم من مانع يمنعكم من عذابه.
وقوله - عز وجل -: { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } قد ذكرناه.
وقوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ }.
أي: جاءكم يوسف من قبل موسى - عليه السلام - بالبينات، أي: بالآيات والأدلة على رسالته وصدقه، جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف بأرض مصر قبل موسى، وما كان من القول منهم بعدما ذهب من بينهم وردهم آياته وحججه التي أتاهم بها، وما أخبر أنهم وأوائلهم لم يزالوا في شك وريب مما جاءتهم الرسل من الآيات والأدلة، وهو ما قال - عز وجل -: { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } يقول: لم تزل عادتكم وعادة أوائلكم هذا.
وقوله - عز وجل -: { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً }.
جائز أن يكون وإن خاطبهم بقوله:
{ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [البقرة: 92]، وقوله: { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ }، وقوله: { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } إنما أراد آباءهم وأوائلهم؛ لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن في زمن هؤلاء مبعوثاً إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آي من القرآن؛ كقوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ } [البقرة: 91]، وقوله: { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } [البقرة: 92]، وهؤلاء لم يقتلوا الأنبياء ولا اتخذوا العجل، وإنما فعل ذلك آباؤهم وأوائلهم، ثم جاء العتاب لهم بسوء صنيع آبائهم وأوائلهم؛ فعلى ذلك هذا.
وجائز أن يكون وإن خاطبهم بما ذكر من سوء الصنيع والتكذيب، إنما يخبر عن صنيع آبائهم وأوائلهم فيحذرهم عن مثل صنيع أولئك من التكذيب لهم والرد لأدلتهم، والقول بعد ذهابه من بينهم، والكذب على الله: إنه لم يبعث رسولا؛ يقول: إياكم أن تكذبوه وتردوا آياته وحججه، ثم تقولوا إذا مات موسى: لن يبعث الله من بعده رسولا، كما قال أوائلكم: إذا مات يوسف: لم يكن من بعده رسول بقولهم: { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } يشبه أن يخرج الآية على هذا، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ }.
فقد ذكرنا تأويله من وجهين فيما تقدم.
ثم قوله: { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } يخرج من وجهين:
أحدهما: آمنوا به، وأنكروا رسالة غيره بعده بقولهم: لن يبعث الله من بعده رسولا.
والثاني: أي: أنكروا رسالته في حال حياته ولم يؤمنوا به، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثاً إليهم رسولا، فيحذر هؤلاء صنيع أولئك ألا يكونوا كأولئك آمنوا به وأنكروا رسالة غيره من الرسل بعده.
أو يقول: لا تكونوا كأولئك يكذبونه ما دام حيّاً، فإذا هلك يكذبون رسالته، يحذرهم سفه أوائلهم، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ }.
أي: يجادلون في دفع آيات الله وردها بغير حجة وسلطان أتاهم من الله، أو بغير حجة مكن لهم الاحتجاج بها، وإلا كان أهل الإيمان قد يجادلون فيها حتى إذا ظنوا أنها آيات الله آمنوا بها وأقروا بها، لكن الوجه فيه ما ذكرنا، أي: جادلوا في دفع آيات الله وردها بغير حجة أتتهم؛ كقوله:
{ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [غافر: 5]، والله أعلم.
وقوله: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }.
هكذا الواجب على أهل الإيمان أن يمقتوا من الأعمال ما مقتها الله تعالى، أو يمقتوا من مقته الله من أعدائه؛ وعلى ذلك ذكر: إن خير أعمالكم حُبُّ ما أحبه الله وبُغْضُ ما أبغضه الله أو كلام نحوه، وشر أعمالكم حب ما أبغضه وبغض ما أحبه الله تعالى.
وقوله - عز وجل -: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ }.
أي: هكذا يطبع الله على كل قلب من جادل في دفع آيات الله وردها بغير حجة، أي: يطبع على كل من تعود التكبر والتجبر على الآيات والرسل، والله أعلم.
ثم قوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ... } من هو كذا، وكذلك يضلل، ونحوه كله حروف الاعتلال، بين الله تعالى العلل التي لها لا يهديهم ويضلهم؛ وكذلك في قوله: { لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ومسرف مرتاب ونحوه، أي: لا يهدي من كان طبعه وعادته الإسراف والكذب وكفران النعم ودفع الآيات والحجج بلا حجة وبرهان، فأمّا من كان طبعه وعادته غير هذا لكنْ لجِهْلٍ جَهِلَ ذلك، أو لما يتحقق عنده لظنه وقلة التأمل، أو لاشتغاله بأمور الدنيا، أو لمعنى من المعاني يجوز أن يهديه الله تعالى ويرشده، على هذا يخرج هذه الآيات، والله أعلم.
وعلى ذلك ما كان [يصنعه] فرعون اللعين من التمويهات والتلبيسات على أتباعه في أمر موسى - عليه السلام - بعد معرفته أن ذلك ليس بقدح في الآيات والحجج التي أتاهم موسى - عليه السلام - أراد أن يموه ويلبس على قومه، فكل من كانت عادته وطبيعته ما ذكرنا من التمويه والتلبيس والمجادلة في دفع الآيات بلا حجة والتكبر عليها - فلا يهديه الله تعالى ويطبع على قلبه، والله أعلم.