التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
٤٥
مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ
٤٦
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ
٤٧
وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
٤٨
-فصلت

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ }.
كأنه يقول - والله أعلم -: إنا قد آتينا موسى الكتاب ما عرفوا أنه إنما نزل من عند الله تعالى؛ حيث شاهدوا نزوله جملة، ومع أنهم عرفوا ذلك، اختلفوا فيه حتى كذبه بعضهم؛ فعلى ذلك يقول والله أعلم -: لو أنزلنا القرآن عليك أعجميّاً، فأديته إليهم بلسانك العربي، لكذبوك، ولا يصدقونك، وإن كان ذلك في الدلالة أكثر في الأعجوبة [و]أعظم على ما فعل قوم موسى بالكتاب الذي أنزل على موسى عليه السلام، يذكر سفههم وتعنتهم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }.
ظاهر هذه الآية على أن ما ذكر من المنة والرحمة في تأخير العذاب إنما هو لقوم موسى، وهو قوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ }، لكن أهل التأويل قد أجمعوا على صرف هذه المنة والرحمة في تأخير العذاب إلى هذه الأمة، وكذا ظهر فيهم المنة في العفو عن الإهلاك في الدنيا دون سائر الأمم، والله أعلم.
ثم ظاهر قوله: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين: أما لجهل بالعواقب، أو لعجز عن وفاء ما وعد، لكن الله يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء مما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة.
ثم قوله: { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يحتمل الكلمة: الحجة؛ كقوله تعالى:
{ وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } [يونس: 82]، وقوله تعالى: { قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } [الكهف: 109]، أي: لحجج ربي، وتكون الكلمة منه: الدين؛ كقوله تعالى: { وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلْعُلْيَا } [التوبة: 40]، ونحوه.
وقيل: الكلمة: هي الساعة التي هي آخر عذاب هذه الأمة، فقال:
{ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [القمر: 46]، والله أعلم.
وجائز أن تكون الكلمة هاهنا ما سبق من المنة لهذه الأمة ألا يعذبها وقت استحقاقهم العذاب.
أو سبق منه المنة والرحمة بتأخير الهلاك عن وقت اكتسابهم أسباب الهلاك، وهذا على المعتزلة والخوارج؛ لقولهم: إن ليس لله أن يعفو أو يؤخر العذاب عمن وجب عليه أو استحقه أو كلام نحوه، حيث منَّ ورحم هذه الأمة بتأخير العذاب عنهم إلى وقت، ولو لم يستحقه العذاب، لم يكن لذكر المنة والرحمة في ذلك معنى؛ وهو كما قال تعالى:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { مَّنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا }.
يخبر - عز وجل - أنه إنما امتحنهم لا لمنافع فيه يجرُّ إلى نفسه، أو لمضار يدفعها عن نفسه، ولكنه إنما امتحنهم وأمرهم ونهاهم؛ لمنافع يكتسبون لأنفسهم، ولمضار يدفعون بذلك عن أنفسهم، وليس كملوك الأرض أنهم يمتحنون الخلق ويأمرون وينهون ويستعملونهم لمنافع أنفسهم، ولمضار يدفعونها بذلك عن أنفسهم، فأما الله - سبحانه وتعالى - فإنما يمتحن الخلائق لمنافع يجرون إلى أنفسهم ولمضار يدفعون به عن أنفسهم، فلهم حصول منافع ذلك الامتحان والأمر والنهي، وعليهم حصول ضرر ذلك؛ فلأنفسهم يعملون ما يعملون من الخير والطاعة، وعليهم ما يعملون من الشر؛ ولذلك قال: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ... } الآية، قد بين السبيلين جميعاً بيانا شافيا، وأقام لكل ذلك حججا وبراهين، وبين أن من سلك سبيل كذا، أفضاه إلى كذا في العاقبة: إما نعيم دائم وسرور دائم، وإما عذاب دائم وشرور دائمة، فمن سلك السبيل الذي عاقبته النار والحزن، فمن قِبَلِ نفسه أتى ذلك، وهو الذي أوقع نفسه في ذلك، ومن سلك السبيل الذي جعل عاقبته الجنة والنعم الدائمة فيه، واختياره وصل ذلك، فهو تفسير قوله تعالى: { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }.
أجمع من آمن بالله تعالى، وصدق رسله - عليهم السلام - من أهل السماء وأهل الأرض أن ليس عندهم علم بوقت الساعة؛ فإن ذلك خفي عليهم لا يعلمونه، وأن علم ذلك عند الله تعالى، وهو ما قال - عز وجل -:
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَٰهَا... } الآية [الأعراف: 187]؛ غير الباطنية والروافض؛ فإن علم ذلك عندهم على مذهبهم وفي زعمهم:
أما الروافض: فإنهم يعدون الأئمة ويقولون: إن الساعة على إمام كذا، وفي زمان كذا.
وأما الباطنية يقولون: إن اسم الساعة والقيامة ونحو ذلك إنما هو اسم قائم الزمان وإنه فلان، فعلى قولهم يظهر وقت قيامها، فهو خلاف ما ذكر في الكتاب، وما أجمع عليه أهل السماء والأرض، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ }.
جائز أن يكون ما ذكر من إخراج الثمرة من الأكمام وما ذكر من حمل الأنثى ووضعها، وهو موصول بقوله: { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ }، فإنه كان على ذلك، فمعناه لا يعلم [ذلك] كله إلا هو، لا يعلم وقت خروجها ولا حدها، وأنها تخرج أو لا، وكذلك الولد لا يعلم كيفية علوقه ولا وقته ولا مقداره، وأنه يعلق أو لا، علم ذلك إلى الله تعالى كعلم الساعة، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله: { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } على الابتداء، ليس على الصلة بالساعة، ولكن موصول بما تقدم من قوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ }، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً... } إلى [آخر] ما ذكر؛ فعلى ذلك يقول - والله أعلم -: ومن آيات ألوهيته ووحدانيته وآيات قدرته وعلمه وتدبيره أن يخرج الثمرات من أكمامها، ومن آياته أن تحمل الأنثى وتضع، وهو أن الله تعالى أنشأ تلك الثمرة في الأكمام، وكذا الولد في البطن في حجب وسواتر ورباه في تلك الحجب والسواتر، وغذاه بأغذية، ودفع عنه جميع الأذى من البرد والحر وجميع ما يؤذيه؛ لضعفه ولطافته؛ لطفا منه ورحمة، وصوَّره في تلك الحجب والسواتر بأحسن صورة؛ ليعلم ألوهيته ووحدانيته وأن له علما ذاتيا وقدرة ذاتية أزلية لا مكتسبا مستفادا؛ إذ العلم المستفاد والقدرة المستفادة لا تبلغ ذلك، والله أعلم.
ثم قوله - عز وجل -: { مِّنْ أَكْمَامِهَا } أي: المواضع التي كانت فيها مستترة، وغلاف كل شيء كمه، كما قيل: كم القميص.
وقال أبو عوسجة: أكمامها: غطاؤها التي يكون فيها قبل أن يتعيق، والتعيق: التشقق؛ يقال: تعيقت الأكمام عن الثمرة، أي: تشققت.
وقوله - عز وجل -: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي }.
يذكرهم، ويخبر عما يسألون يوم القيامة وما يكون من جوابهم لذلك السؤال؛ لعلهم يمتنعون عن ذلك، ويحذرون؛ يقول: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } أي: أين الذين تزعمون أنهم شركائي في الدنيا؟ أو أين الذين تعبدون في الدنيا وتزعمون أنها آلهة، وأنها شفعاء لكم عندي؟ وإلا لا يحتمل أن يقول لهم الرب - جل وعلا -: أين شركائي؟ ولا شريك له ولا إله غيره، ولكن ما ذكرنا.
وقوله - عز وجل -: { قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ }.
قال بعضهم: { آذَنَّاكَ }: أسمعناك.
وقيل: أعلمناك.
والأشبه أن يكون معنى { آذَنَّاكَ }: أخبرناك؛ إذ الله تعالى كان عالما بذلك، وإعلام العالم لا يتحقق، أما الإخبار للعالم عن الشيء يتحقق بما علم به، والله أعلم.
ثم اختلف في ذلك أنه قول من؟: قال بعضهم: هو قول أولئك الكفرة الذين نودوا يومئذ يقولون: أخبرناك أن لم يكن منا أحد شهيدا بذلك، أو يقولون بالشريك، أو بإله سواك، يخرج على الإنكار والجحود والكذب أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يفعلوا، وهو كما ذكر عنهم في آية أخرى:
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ... } الآية [الأنعام: 22]، فقالوا: { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 22]، أنكروا ما كان منهم من الإشراك؛ فعلى ذلك قوله: { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ }، أي: لم نشرك بك أحدا، ولم نتخذ من دونك إلها، والله أعلم.
وقال بعضهم: قوله: { قَالُوۤاْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } هذا من قول الأصنام والذين عبدوهم من دون الله في الدنيا، يقولون: ما منا من شهيد على عبادة أولئك إيانا، ولا أمرناهم بذلك؛ وهو كقوله:
{ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس: 28]، وقولهم: { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } [غافر: 74]، أخبروا أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم إياهم، وأنهم ما أمروهم بها؛ فعلى ذلك قوله تعالى: { آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي: أخبرناك.
وقوله تعالى: { آذَنَّاكَ } على هذا التأويل هو ما ذكروا: أن كنا عن عبادتكم لغافلين، والله تعالى أعلم.
ثم إن الكفرة في يوم القيامة مرة أنكروا عبادتهم غير الله، وأحيانا أقروا بها وتبرءوا منها، ومرة سألوا الرجوع إلى المحنة والرد إلى الدنيا على اختلاف الأحوال والأوقات في ذلك اليوم؛ إذ لا تكون هذه إلا الأسئلة المختلفة في وقت واحد، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ }.
هو ما ذكر في آية أخرى:
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ ٱللَّهِ قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا } [غافر: 73-74]؛ وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام في الدنيا؛ رجاء أن تشفع لهم في الآخرة وتقربهم إلى الله زلفى، فلما أيسوا ما رجوا منها، وقمعوا، قالوا: { ضَـلُّواْ عَنَّا }؛ فعلى ذلك قوله: { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } من قبل في الدنيا.
وقوله - عز وجل -: { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }، أي: أيقنوا وعلموا أن لا محيص لهم ولا نجاة.
وقال أبو عوسجة: { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }، أي: مهرب.