التفاسير

< >
عرض

لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ
٤٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٠
وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ
٥١
-فصلت

تأويلات أهل السنة

قوله - عز وجل -: { لاَّ يَسْأَمُ ٱلإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ ٱلْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ }، وقال في آية أخرى: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }، هاتان الآيتان في ظاهر المخرج: إحداهما: مخالفة للأخرى؛ لأنه ذكر في إحداهما الإياس والقنوت إذا مسه الشر، وفي الأخرى كثرة الدعاء إذا مسه الشدة والبلاء، ومن طباع الخلق والعرف فيها أنهم [إذا] أيسوا وقنتوا لا يدعون ولا يسألون، بل يتركون سؤالهم، وإذا طمعوا ورجوا عند ذلك سألوا ودعوا، هذا هو العرف فيهم؛ فدل أن بينهما مخالفة من حيث الظاهر، لكن نقول: إن الآية تخرج على وجوه:
يحتمل: أن كل واحدة من الآيتين في إنسان بعينه يشار إليه سوى الآخر، كان عادة أحدهما - على الإياس والقنوط من الخير - ترك الدعاء والسؤال، وكان عادة الآخر الدعاء والتضرع إليه والسؤال عن كشف ذلك عنه، فأخبر - جل وعلا - رسوله عليه الصلاة والسلام ما أضمر كل واحد منهما: في نفس أحدهما الإياس والقنوت، والآخر الدعاء والسؤال والطمع في الخير؛ ليكون له عليهم دلالة الرسالة وآية النبوة إذ أنبأه عن ضمير كل واحد منهما وما في نفسه؛ ليعلم أنه رسول، وإنما علم ذلك بالله جلا وعلا، والله أعلم.
والثاني: أن الكفرة كانوا فرقا، وكانوا على مذاهب شتى مختلفة:
فرقة كانت تطمئن في حال الرخاء والسعة، وتيأس وتنقلب في حال البلاء والشدة؛ كقوله:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ... } الآية [الحج: 11].
وفرقة كانت تفزع إلى الله تعالى وتقبل إليه عند إصابة الشدة والبلاء، وتعرض عنه عند كشف ذلك عنهم وتوسيع النعم عليهم؛ نحو قوله تعالى:
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ... } الآية [العنكبوت: 65] ونحوه كثير في القرآن.
وفرقة كانت في الحالين جميعا على الإعراض عنهم، وترك الإقبال إليه والطاعة له، لا يفزعون ولا يقبلون لا في حال الرخاء والسعة ولا في حال البلاء والشدة؛ كقوله:
{ فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنعام: 43].
وفرقة كانت ترى الحسنة والخير من أنفسهم، وإذا صارت سيئة وشدة تطيروا بالرسل عليهم السلام؛ كقوله تعالى:
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [الأعراف: 131]، وقوله تعالى: { قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } [النمل: 47].
وإذا كانت الكفرة على هذه المذاهب المختلفة وكانت أجناسا شتى، فيكون كل آية منهما في جنس غير الجنس الآخر، وفي أهل مذهب غير أهل مذهب آخر، فأما المسلمون فيكونون في الحالين جميعاً على التوحيد والإقبال إلى الله تعالى في حال الرخاء والسعة، وفي حال البلاء والشدة، وهو على ما استثناهم الله تعالى عند ذكر الكفرة؛ حيث قال:
{ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [هود: 10-11]، وقوله تعالى: { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } الآية [العصر: 1-2]، وأمثال ذلك من الآيات، وصفهم - جل وعلا - بالثبات والقرار على دينهم في الأحوال كلها، والله أعلم.
والثالث: جائز أن يكون ما ذكر من الآيتين على ما ذكر إخباراً عما طبع عليه البشر وأنشئ، وإنما أنشئ البشر وطبع على الرغبة في الخير والسعة والنفار عن الشدة والبلاء والكراهة له؛ فهذا إخبار عما طبعوا عليه وأنشئوا، ليس على حقيقة إظهار ذلك منهم قولا أو فعلا، [ولكن] على ما طبع كل إنسان؛ راغبا حريصا في السعة والرخاء، وأنه ما ذكر لا يسأم من دعاء الخير، كارها نافرا عن البلاء والشدة، والله أعلم.
وقوله - عز وجل -: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي }.
قال بعضهم: { هَـٰذَا لِي }، أي: أعطانيه من خير علمه مني.
وجائز أن يكون ما ذكرنا أنهم كانوا يتطيرون بالرسل عند البلاء والشدة، والسعة يرونها من أنفسهم؛ حيث قال:
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ... } الآية [الأعراف: 131].
وقوله - عز وجل -: { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً }.
كانوا ينكرون البعث والجزاء لما عملوا في الدنيا، ثم يقولون: ولئن كان يذكر محمد من البعث والجزاء للأعمال والجنة؛ إن ذلك لنا دونهم، وهو قوله: { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [فصلت: 50] أي: إن رجعت إلى ربي على ما يقوله محمد: { إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } وهو على ما قالوا في الدنيا:
{ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف: 11] لما رأوا السعة لأنفسهم في الدنيا دون المؤمنين؛ فعلى ذلك في الآخرة قالوا لنا دونهم، والله الهادي.
ثم أخبر تعالى عما ينزل بهم بأعمالهم في الآخرة، وهو قوله تعالى: { فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ }.
أي: ننبئنهم بخبر ما عملوا؛ لأن ذلك كان منهم تمنياً وتشهياً بمن يذيقهم العذاب الغليظ.
وقوله - عز وجل -: { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }.
هو ما ذكرنا من دعائهم وسؤالهم الخير وطمعهم ذلك.
وقوله: { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ }، قال أبو عوسجة: { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي: تباعد عما أمر به، { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } أي: كثير الدعاء لا يمل ولا يسأم، وكذا قال القتبي.